الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

إلى أهالي العسكريين المخطوفين: أوصيكم بالأزهار البرية

المصدر: "النهار"
عقل العويط
إلى أهالي العسكريين المخطوفين: أوصيكم بالأزهار البرية
إلى أهالي العسكريين المخطوفين: أوصيكم بالأزهار البرية
A+ A-

أذكر مذ كنتُ طفلاً، أني كنتُ أفرش لأحبائي الموتى من أجل أن يناموا في قلبي. وكنتُ أفرش للأهل خصوصاً، كي لا يشعروا بالوحشة.  

أفرش في قلبي للموتى، فكيف إذا كان الموتى شهداء. وكيف إذا كان الأهل هم أيضاً شهداء.

ما تركتُ في حياتي الميت وحيداً. فكيف إذا كان شهيداً.

أخذتُ ذلك عهداً على نفسي، من أجل أن أرأف بحال نفسي. ومن أجل التمرّن على الموت. وتخفيفاً لفداحة الشرط البشري.

عندما كنتُ صغيراً، في الخامسة أو السادسة من عمري، مات أخي الصغير، بسبب خطأ رافقه منذ الولادة، وكان له من العمر تسعة أشهر تقريباً.

كان بيتنا المتواضع يقع في بلدة بحرية شمالية عند أطراف حقلٍ مليء بالأزهار البرية. كان عليَّ من تلقاء نفسي أن أذهب إلى ذلك الحقل لأقطف باقة ملوّنة وأضعها على جسد أخي النائم.

أذكر أنه ابتسم لي. أو هكذا ظننتُ.

الأطفال يبتسمون دائماً. فكيف إذا كانوا موتى.

الأطفال الموتى هم شهداء أيضاً.

كان ينبغي لي في ما بعد أن أطوي تلك الصورة لأواصل حياتي. لكني لم أشأ أن أفعل ذلك قسراً، أو أن أصطنع إسدال الستار على تلك الصورة. لقد وجدتُ في المحافظة على تلك الصورة نوعاً من الألفة. الألفة مع الموت. مع وجع الموت اللامتناهي.

لم أستطع أن أتوصل إلى المصالحة مع المعنى. مع العدوّ الذي كان وحده آنذاك يعني الموت. أكان موتاً طبيعياً أم موتاً من نوع آخر.

كيف أتصالح مع الموت، إذا كان في أحواله كافةً، يعني الإرهاب؟!

مَن يستطيع أن يتحمّل إرهاباً كإرهاب الموت؟!

فكيف إذا كان هذا الإرهاب غير طبيعي، أو في غير أوانه؟!

أيها الأهالي، يا أهالي العسكريين المخطوفين، افهموني جيداً.

سيواصل كلٌّ منا حياته. وستواصلون حياتكم. يجب أن تفعلوا هكذا.

افعلوا ذلك من أجل أنفسكم. ومن أجل الموتى. فكيف إذا كان الموتى شهداء!

اذهبوا إلى البراري، واقطفوا الأزهار الملوّنة، واجعلوها في قلوبكم. هكذا يبتسم لكم الموتى. فكيف إذا كانوا شهداء.

أنا الذي تآلفتُ مع الموت الهيّن والموت الصعب، ولم أصادقه، سأجعلكم أخوتي وأخواتي. وسأظلّ أزوركم. في الأوقات المنسية سأزوركم. في الأوقات التي هي خارج الأوقات. في الغفلات التي تسقط من العيون بدون انتباه. في اللحظات التي تلي إطباق الجفون على الجفون. في الأحلام. في الكوابيس. في الأنين. في الصمت الثقيل. وفي اللاوقت.

سأزوركم في الأزمنة الصعبة. حين يرفضّ عنكم الزوّار. وتتوقف المسرحية. لن أكفّ عن زيارتكم والسهر عليكم. حين ينام الجميع ستجدونني عندكم. سأغطيكم بالرموش في الصيف. وباللحف السميكة في الشتاء.

هذا اليوم، هو ثاني أيام العيد.

إني أوصيكم بأن لا تنتظروا شيئاً من أحد.

ولا الأوسمة.

ثمّ، إياكم أن تنتظروا المحاكمات. ونتائج المحاكمات.

أوصيكم فقط بالأزهار البرية، في هذا العيد بالذات.

جيئوهم بالأزهار البرية. الأزهار البرية تحديداً. من أجل أن يبتسموا. ومن أجل أن تواصلوا فداحة الحياة.

[email protected]



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم