الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

التحرّي وتوقيف السوبرمان الذي اغتصب السيّدات وسلبهنّ الحليّ والأموال في بيروت 1974

المصدر: "النهار"
أنور يحيى- قائد سابق للشرطة القضائية
التحرّي وتوقيف السوبرمان الذي اغتصب السيّدات وسلبهنّ الحليّ والأموال في بيروت 1974
التحرّي وتوقيف السوبرمان الذي اغتصب السيّدات وسلبهنّ الحليّ والأموال في بيروت 1974
A+ A-

صيف عام 1974 نعِمت العاصمة بيروت باستقرار أمني مميز؛ فأقبل المصطافون والموظفون الدوليّون وعززت سفارات الدول الكبرى طواقمها، وأضحت بيروت مركزاً للمناطق العربية القريبة. كانت بيروت تعيش أجواء الحرية والديموقراطية والسرّية المصرفية، وموئلاً للمضطهدين في دولهم سياسياً أو عرقياً، كثرت الملاهي والفنادق فيها  

وكانت جامعة العرب ومستشفاهم ومصرفهم الآمن وموطناً طيّب العيش.

لكن موجة من الذعر سادت منطقة رأس بيروت في شهر تشرين الأول من ذلك العام، حين تعرضت سيدتان أجنبيتان، كلّ على حدة، للاغتصاب والسلب على يد سفّاح سريع الحركة، ينتقل من طابق إلى أعلى بوسائل خفيّة وكأنه شبح يدخل الغرفة، حتى لو تأكد أصحابها من إقفالها. ادعتا أمام فصيلة شرطة حبيش وأحيل

التحقيقان على تحري بيروت وفقاً لإشارة النيابة العامّة الاستئنافية لسرعة كشف خفايا هذا "السوبرمان"super man وتوقيفه.

ادعت سيدة ثالثة، تعمل في مكاتب الأمم المتحدة في بيروت، وعلى مقربة من السفارة الأميركية في محلة عين المريسة، بتعرّضها للاغتصاب من سفّاح هدّدها بمسدس حربي، بعدما استيقظت مذعورة في سريرها حيث تسكن منفردة في الطابق

الثالث من مبنى مقفل النوافذ والباب الرئيسي، لتشاهد شبحاً يدخّن سيجارة بقربها ومسدّسه في قبضة يده!

استدعى العقيد فؤاد الفر، قائد الشرطة القضائية، الرائد نديم لطيف آمر مفرزة بيروت القضائية، وطلب إليه التفرغ مع رجال مفرزته لكشف هذا الشبح الخطير، الذي أقلق سيّدات العاصمة. وأظهرت الصحف جسارته وقوة بدنية خارقة تمكّنه من تسلّق شرفات المنازل بوسائل جعلت

الشرطة تتساءل: هل هذا الجاني من البشر أم من الجان؟

رفع الخبير بالبصمات في الأدلة الجنائية بصمات من مسارح الجرائم الثلاثة وجاءت مطابقة لبصمات المدعوّ جوليانا تيا: مواطن عراقي 30 سنة، يقيم في محلة السبتية، الدكوانة، مع طفله 8 سنوات، وأمه. ضرب زوجته بعنف فتركت المنزل الزوجي، وادعت عليه أمام درك الجديدة حيث أوقف لمدة ثلاثة أيام وأخلي سبيله

بعدما أخذت بصمات يديه وحفظت في أرشيف الأدلة الجنائية، فيما كانت الوسائل غير متطوّرة، لكن ذكاء وخبرة وذاكرة المعاون فوزي خضر، الذي انتقل شخصياً إلى المواقع الثلاثة ورفع البصمات وقارنها وتعرّف إلى كيفية دخول الوحش إلى الطوابق الثلاثة، التي تعرّض مَن فيها للاغتصاب والسلب بالعنف وتحت التهديد بمسدس هو عينه وفقاً لإفادات الضحايا،

اكتشف أنّ جوليانا هو نفسه من قام بالحوادث الثلاثة.

شكل الرائد لطيف مجموعة من أشدّ رجال المفرزة الذين داهموا الغرفة التي يسكنها في الجديدة أكثر من مرة دون نتيجة. تبين أنّ جوليانا لديه قدرات جسدية هائلة وفقاً لمعلومات الجيران ويمكنه أن يصعد من طابق إلى آخر مستعيناً بقضيب من الحديد، معقوف الطرف، يعلّقه في زاوية الشرفة أو الدربزين ويرتفع مستعيناً

بزَندين قويين وشجاعة خارقة. يشرب الويسكي بكثرة، يلعب القمار، وعندما ينضب جيبه يباشر عمليات السرقة والسلب. لم يعلم الناس أنه مغتصب وسالب بل حسن المعشر، يتردد قليلاً حيث تعيش أمه وطفله، بعدما طلّق زوجه التي تعرّضت للضرب أكثر من مرّة.. يسهر في الحانات الليلية ويلتجئ إلى أحد القبضايات ويرافقه أحياناً.

خطرت ببال الرائد لطيف الاستعانة بفان عائد لشركة علكة "تشكلتس" chick lets بحيت جهّز فيه ثمانية من رجال التحرّي. تتجوّل هذه السيارة في شوارع بيروت وكأنها تبيع العلكة، تفتش عن المطلوب، وحيث أصدر النائب العام الاستئنافي بلاغ بحث وتحرٍّ بحقه، علّها تصدفه فيتعاون رجالها لتوقيف الشبح!

تفقدوا الملاهي الليلية وأماكن لعب القمار الممنوعة، وطلبوا إلى مستثمريها إبلاغهم
عند حضور جوليانا المعروف لدى بعضهم، مقابل خدمات يؤديها المتحري لهم بوسائل شتى.  

المدعوّ جورج (الأرمني)، صاحب أحد الملاهي المشهورة في حينها في الزيتونة (عين المريسة)، الذي سبق أن تعاون مع شباب التحري، وعدهم بإبلاغهم عند توفّر أيّ معلومات عن جوليانا الذي يطيب له شرب الويسكي ومعاشرة الفتيات العاملات

في الملهى الليلي، ويصرف عليهنّ الأموال الطائلة!

كانت المجموعة تتجول ليلاً ضمن فان الـ"تشكلتس" وترصد حركة جوليانا الذي بات يعلم أنّ المتحري يلاحقه بعدما كشف أمره، حين اتصل المخبر جورج بالمفرزة وقال إنه سيسهر الليلة في ملهى بمحلة الدخولية، بيروت مع المطلوب بعد الساعة العاشرة ليلاً. كان الفان على مقربة من المكان، حين وصل الرائد لطيف ليترأس

عملية التوقيف لرجل خارق القوة. لم يكن حينها الهاتف المحمول قد استخدم، بل يجري الاتصال عبر مقسم مفرزة التحري. دخل أحد الرجال الذي يعرف المخبر جورج إلى الملهى، لكنه لم يشاهده ولا جوليانا!

ثابر الرائد لطيف والمجموعة المشكّلة في قضية جوليانا بالدوريات والاستقصاءات لتوقيفه دون نتيجة.

مساء اليوم الرابع، وأثناء قيام الرقيب الأول شكري الخوري والعريف كميل سرحال، من تحري بيروت، بخدمة الدورية قرب ملهى "الفونتانا"، عين المريسة، تعرّف الرقيب الأول إلى المخبر بسيارته وبقربه شاب قويّ البنية، لكن من خلف السيارة. ظنّ الاثنان أنّ الرجل قرب جورج هو جوليانا المطلوب. على الفور تقدم العريف كميل من الخلف وصوّب

مسدسه الأميري باتجاه أذن المطلوب صارخاً بقوة: تحري: إذا بتتحرك قاتلك!

فوجئ المطلوب وحاول الإيحاء بأنه بريء، لكنه أذعن رافعاً يديه قائلاً: "شو في؟"، ثم تقدم الرقيب الأول شاهراً مسدّسه الأميري صارخاً بالناس الذين تدافعوا لمشاهدة ما يحصل: "طلبوا الـ 16". بالفعل، وخلال 4 دقائق حضرت دوريّتان من الفرقة 16 وآزرتا دورية التحري بتكبيل جوليانا العنيف، الذي

اعترف باسمه وكان يردد: "أكيد مغلطين يا شباب، نحن جايين نسهر!" كما تعرّض المخبر جورج للعنف والتكبيل أمام جوليانا لإخفاء حقيقة دوره الهامّ بمعاونة المتحرّين، والعمل كمخبر لتوقيف المطلوب الخطر جوليانا. فتّش الرقيب الأول الخوري المطلوب بسرعة، بعد إنزاله من السيارة الخاصّة وقبل وضعه في سيارة التحري لنقله إلى الدائرة ولم يعثر معه على أيّ سلاح.

أفيد الرائد لطيف بأنّ دورية تحرٍّ أوقفت مطلوباً وهم في طريقهم إلى المفرزة. وبوصول دوريّتي الطوارئ مع دورية التحرّي جرى تفتيش المطلوب مجدداً قبل إدخاله النظارة، فعثر معه على مسدّس 7 ملم كان يخفيه في أسفل بطنه وهو ملقم وجاهز لإطلاق النار!!

على الفور نقل جوليانا إلى نظارة قيادة الشرطة القضائية في ثكنة المقرّ العام خوفاً من خلع أبواب نظارة المفرزة

الضعيفة أمام زندي جوليانا الفولاذيين. هنّأ الرائد الدورية لشجاعتها بتوقيف جوليانا المطلوب الخطير، الذي أشاع الذعر بين النساء في محلة رأس بيروت، وبدأ التحقيق معه بكافة الوسائل المستخدمة لا سيما أنّ بصماته مطابقة للبصمات المرفوعة في الحوادث الثلاثة، وقد حضر قائد الشرطة القضائية والمدّعي العام وأصرّ جوليانا على إنكاره وأنه لم يدخل

أيّاً من المنازل الثلاثة وربما هناك التباس في الأمر.

لم تنفع ممارسة كافة أشكال العنف التي كانت سائدة حينه: الفروج، الضرب بالعصيّ على القدمين، وطرق أخرى لا مجال لتعدادها، لأخذ اعتراف الجاني وحيث لم تتجاسر أيّ من السيدات اللواتي خضعن لعمليات السلب والاغتصاب لمواجهة جوليانا خوفاً من انتقامه بعد إطلاق سراحه.

ابتكر العريف كميل سرحال فكرة إحضار طفله، 8 سنوات، لمشاهدة والده أثناء التحقيق في النظارة، فأحضره بموافقة النائب العام الاستئنافي. ولحظة رؤية جوليانا لابنه، وهو معلق أثناء التحقيق الجنائي، طلب إنزاله ووعد بأن يروي الحقيقة شرط إعادة ابنه إلى كنف جدته. أعيد الطفل وسرد جوليانا جرائمه الخمس (سيدتان لم تدّعيا أمام الضابطة العدلية بتعرّضهما للاغتصاب والسلب حرصاً

على سمعتهما وسمعة العائلة) وكيف كان يتسلّق الشرفات العالية مستعيناً بقضيب من الفولاذ، معقوف الرأس. يدخل، يستطلع إذا كانت السيدة بمفردها، يدخل أو يفتش عن ضحيّة أخرى. كان يدخن سيجارة أثناء نوم الضحيّة ثم ينقضّ عليها شاهراً مسدّسه الحربيّ غير المرخّص. غالباً ما كانت الضحايا يستسلمن له خوفاً من القتل ويقدّمن له الحليّ والأموال مساومات للبقاء على قيد الحياة، وكان

غالباً ما يخرج من الباب الرئيسي غير خائف من صراخ الضحية طلباً للنجدة، خوف أن يعود ويقتلها.

عرضت صوره أمام الضحايا الثلاث، ثم أرشد المتحرين إلى مكاني سكن السيدتين اللتين تعرضتا للاغتصاب والسلب ولم تدّعيا بالحادث، فتعرفتا إليه بذعر ورهبة.

كان مدمن قمار وشرب الويسكي، وبعد ما تنضب الأموال المسلوبة يفتش عن ضحية

جديدة لكسب المال لا طمعاً بالجنس كما روى للتحرّي!

طلب النائب العام الاستئنافي في بيروت التنويه بعمل المتحرّين وشجاعتهم بملاحقة هذا الوحش، وقد أظهرت الصحف اللبنانية صورته واعترافاته دون ذكر أسماء الضحايا حفظاً لسمعة العائلات، وقد نوّهت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بموجب التنويه رقم 28 تاريخ 16-12-1984 بأعمال كلّ من:

الرائد نديم لطيف، آمر مفرزة بيروت القضائية، ورجاله.

الرقيب الأول نمر حرب، الرقيب الأول شكري الخوري، الرقيب الأول خليل نصر، الرقيب أندره متى، الرقيب نايف أمين والعريف كميل سرحال، مع منح كلّ منهم مكافأة مالية قدرها مئتا ليرة لبنانية للسبب التالي:

"عمل بإشراف رئيسه على رصد تحركات لصّ خطر سطا على عدة منازل

في العاصمة وضواحيها، فسرق وسلب من المال وبعض المجوهرات والحلي الثمينة واغتصب بعض السيدات من ربّات المنازل بقوة السلاح، فتمكن من اكتشافه وتوقيفه".

حكم على جوليانا بعشر سنوات من الحبس لكنه فرّ أثناء حرب السنتين (75-76) من السجن، وعاد إلى المفرزة عارضاً أن يعمل مخبراً لديهم لأنه أعجب، لا بوسائل التعذيب أثناء التحقيق، بل بشجاعة وطرق

التعرف إلى الجاني عبر الأدلة الجنائية، لكن رجال المفرزة أوقفوه مجدداً وأودعوه السجن لإكمال حكمه وفقاً للأصول مقدراً تمسك التحرّي بتنفيذ القانون بشتى الظروف.

حينها، كانت الدولة وجيشها وأجهزتها الأمنية الشرعية، ملاذ المواطن والضحية، ولا سلاح إلا سلاحها في سبيل نشر الأمن وبسط هيبة الدولة، وتنفيذ القانون ولا مكان للطائفية بين إخوة السلاح، بل عائلة

واحدة بأجهزة متعددة هدفها حماية لبنان ونشر الطمأنينة، فعمّ السلام وازدادت أعداد المستثمرين في هذا الوطن وطالبوا بالاستجمام والخدمات المميزة بظلّ نظام حرّ وديموقراطي يكفل الحرّيات العامّة ويحافظ على حقوق الإنسان.

ترى هل يقتنع سياسيو لبنان بأنّ لدى الأجهزة الأمنية الرسمية القدرات الجمّة للقيام بالمهامّ الملقاة عليها قانوناً وكشف أخطر الجرائم المرتكبة، حتى ولو كان

الجاني سوبرمان، فيتم تجهيزها وتأمين حاجاتها من الموازنة بدلاً من انتظار الهبات الموعودة التي قد تلغى لأسباب سياسية لا علاقة لهذه الأجهزة بها، فتبقى قاصرة عن مواكبة تطور تكنولوجيا المعلومات والتصدي لجرائم الألفية الثالثة المتعددة الأنواع بالوسائل المناسبة؟



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم