الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

أبقار سوداء

المصدر: "النهار"
أسعد الجبوري
أبقار سوداء
أبقار سوداء
A+ A-

(إلى جاك بريفير) 

لا تأخذْ رأسكَ بين يديكَ وتبكِ

يا صديقي بريفير.

دَعْها تُحرّك السُّكَّرَ،

وتشرب القهوةَ بالحليب

ثم تمضي دون وداع.

نحن في أواخر الخريفِ تماماً.

أوردتُنا سككٌ طويلةٌ من القصب.

وأرواحُنا حيطانٌ مُسْرِفةٌ بلا نوافذ.

إننا يا صديقي

كلما قَدِم إلينا قطارٌ جديدٌ،

سرعان ما نحطم الأبوابَ

ونهرع إليه حاملين الشموع بحجمِ

القامات.

لكنه "وأَسفاه"

يبصق على وجوهنا شيئاً غامضاً،

فنعود إلى الحظائر مهزومين كفريق

من الأبقار السوداء.

***

لا تأخذْ رأسَكَ بين يديكَ وتبكِ

يا صديقي بريفير.

إن مظاهر الرعيّة في بلادي

لم تأخذْ شكل الأحصنة.

لقد تَفَسّخَتْ بنهر الفجيعة تماماً.

وها نحن مسالخ متنقلةٌ.

نجلس القرفصاء تحت السرادق الملتهب بالحمى،

وندخّن الجزء الكبير من موسيقى المبادرات.

ودائماً... نسكن الجنوب.

كلنا من نسل التراث.

ليس لنا غير المواضيع الفادحة:

أن نكون دولاً نامية في معلبات.

ومخلوقات بأرباع رؤوس تخوض

التيه في الربع الخالي أو القطب.

لم يبق شيء يا صديقي.

فنحن ضمانٌ لاستهلاك الفائض العالمي

من التنكيل والإرهاب.

إن الرغبات سفنٌ تتحطم تدريجياً تحت صخور جلودنا

المصنّعة من الاستغاثات.

وهكذا أيضاً

تتوفر عنا المعلوماتُ كالغيوم

الداكنة.

سواء في المقاهي. الحدود. الأغاني.

الملاجئ.

لقد بات الرهانُ علينا عادةً موروثة.

في زمن السلام

لنا الصحف وحرية التظاهر ضد الجوع

ذهنياً.

وفي الحرب

ليس ثمة شيء في انتظارنا غير السفلس

والطواحين والمحاكم.

لا أدري يا صديقي بريفير،

كيف لهذا الترياق،

أن يشجع كل تلك الخيول على دخول

الرهان الدولي،

من أجل صرخة واحدة

تجعل منا سمكاً مذعوراً في الشباك.

أذكر كل شيء يا صديقي:

قفّاز المحارب المعلّق على جدار

المتحف.

الأناشيد التي تتدهور بين غلاصم

التلاميذ كالدواليب المشتعلة.

مواشي المرارة،

وهي تتدفق كالشلال إلى المزارع

والأعصاب.

أجل.

أتذكّر كل شيء يا صديقي.

ولكن

كيف تحسّ بالنوم

ورأسكَ ممسوكٌ بقبعة من الفولاذ.

نحن لا نخاف من طبول الطوابق الشاهقة.

إلا أننا ندرك كمية الأقمار التي تهرول

بأثوابها الحمراء،

من ممرات سايكس بيكو إلى مداخن هارلم.

وحتى جبال كردستان المدرعة بالأحلام

وبالشظايا.

بالضبط يا صديقي بريفير.

قبل خليقة حمامة بيكاسو وبعدها،

ونحن لم نزل في الجداول المتداولة

بين المرضى.

نبلغ ملايين الأطنان من الفزع

والنرفزة والموت والصخب والخلاف.

أما الانتصارات

فتتوج رأس هولاكو

حيث أدمغتنا السوداء،

لم تزل قيد الاقتراع في صناديق التصويت

والمصالح المشتركة.

نعم يا صديقي بريفير:

"إنهم يقتلون الخيول"

وهنا كل الممرات مثلّجةٌ بالفراق.

وحيث الليل الهلامي يهبط.

وتلتجئ الكواكب إلى الوحدة والانتظار

مرةً أخرى.

ما جدوى أن يشاور الطائرُ وكرهُ الجليدي

الجديد عن أجنحة - فودكا - المشعة بالبراكين

والضرائب والمراهنات.

ستة وعشرون عاماً من التشرد يا صديقي،

الآن...

تتوحد بهدف مستقل:

تمويلُ قلبي بهتافات عيونها الدامية

الزرقة.

إن البحر

يبدو واضحاً للعصافير،

وهي

تؤسس تحت أجنحتها المسارحَ

المكشوفة.

وها أنذا

كلما وضعتُ المستقبلَ نصب عينيّ،

يخرج طائرٌ بملابس فرنكو

وعيونٌ مجلّدة بالشفرات.

إنها أحداثٌ مثيرةٌ لمظاهر العدمِ المتألق

بهذا السماد المريع من الكآبة.

وصباحات كالأرانب،

تلبد في المعاطف،

ساعة تدهمنا الكواكبُ بالأناشيد.

ويحكَ يا بريفير المبعثر نفسه بين الانقلابات

الأسواق القذائف الزهور.

لا أدري،

كم ملعقة ستجرع من التهديدات

هذا المساء.

إنكَ يا صديقي تتخذ طريقكَ

مثل الأزياء إلى جهنم بصورة واضحة.

تماماً...

كأطفالك المصنوعين من مجوهرات الأغاني

داخل أفران روحكَ المعلّبة بالسكاكر

والشمبانيا وإمكانات الغضب المترع

المضاعف بالكراهية والنزيف.

لنقف قليلاً يا صديقي بريفير ونتساءل:

لِمَ تُشيَّد كل هذه البنايات،

بينما الإنسانُ

ي

ت

ه

د

م

على سلالم لا تقود إلا للتشاؤم

والانتحار.

الآن...

إن كل ما نراه على هذه الشاشة أو تلك،

ليس أكثر من سفن محترقة عند كل مضيق.

بينما طارق بن زياد،

بضربةٍ حسم الاختبارَ لتسكن الصقورُ

أقفاص الجحيم.

آه يا صديقي بريفير،

انظرْ إلى هذا القمر...

أنه بزائدة دودية من الفحم.

تلمسّ هذه الأيام…

إنها بقرون رمادية جارحة.

اطرقْ هذه الجماجم…

إنها سفنٌ فارغة من القرميد المشع

كجلود الغزلان الشهيدة.

كم تبدو وحدتُنا شديدةً ووعرةً.

إنها أفظع وحدةً من هاملت.

وأقسى تعقيداً من الأهرامات.

وهذا هو حبُّنا يا صديقي بريفير:

أن تنتحر دفعةً واحدةً…

أو تأخذَ رأسكَ بين يديكَ كل صباح،

وتبكي بدموعٍ من خشب.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم