الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

جيري لويس: صانع بهجة خاصمته أميركا ومجّدته "الموجة الجديدة"

المصدر: "النهار"
جيري لويس: صانع بهجة خاصمته أميركا ومجّدته "الموجة الجديدة"
جيري لويس: صانع بهجة خاصمته أميركا ومجّدته "الموجة الجديدة"
A+ A-

جيري لويس كان عبقرياً، بالمعنى الحرفي. "جينيوس"، كما يقول الأميركيون. كائن كاوتشوكي ضحوك، لا يرقى إلى جمال النجم الأميركي المعهود، أسنانه تتدلى من وجهه، فيه روح شاعر، ودم حامٍ وخفة صنعت مجده. ألهم شلّة من صنّاع الطرافة، من وودي آلن إلى جيم كاري، وأفلامه أضحت اليوم من كلاسيكيات السينما الأميركية.  

عندما انتشر خبر وفاته الأحد الماضي، كان الفرنسيون سبّاقين في نعيه واستعادة فصول من سيرة هذا الذي عاشوا معه قصّة حب طويلة. فلويس ظلّ "همشرية" السينيفيليين والنقّاد الفرنسيين لسنوات. احتُفي به، كما احتُفي بآخرين قبله: هوكس، هيتشكوك، ولش، الخ. وعندما أساؤوا فهمه في بلاده ولم يقدَّر كما يجب، تلقفوه وحضنوه. حتى ان غودار وضعه فوق شابلن وكيتون. جاك لانغ زينه بوسام جوقة الشرف ومهرجان كانّ كرمه قبل أربعة أعوام.

جيري لويس ودين مارتن.

رحل لويس عن عمر الـ٩١ في لاس فيغاس. ارتبط اسمه بنحو ٦٥ فيلماً أخرج منها ١٥. آخر اطلالة له في فيلم، تعود إلى العام الماضي. وصل إلى الذروة في خمسينات القرن الماضي وستيناته. لويس من مواليد نيو جرسي، ابن عائلة يهودية من أصول روسية. والداه كانا يعملان في الميوزيك هول. حياته المهنية بدأها في عمر مبكر جداً. كان في الخامسة عندما اعتلى خشبة المسرح وغنّى. الا ان المهرّج الذي في داخله كان الأقوى، فاتجه إلى التمثيل وخصوصاً مع اكتشافه بأنه يعرف كيفية اضحاك الآخرين. بدأ بالإيماء والتقليد. في الخامسة عشرة، طُرد من المدرسة بعدما ضرب استاذه الذي تلفظ بكلام معادٍ للسامية في حقه. استقر لويس في نيويورك، حيث ساعده أحدهم في تنظيم الحفلات. هذا كله ولم يكن قد بلغ الثامنة عشرة. استُدعي للخدمة العسكرية مع سن الرشد. الا ان عاهة معينة أعفته من الإلتحاق بالجيش.   

لويس خلف الكاميرا.

انتهت الحرب. التقى في احد الملاهي الليلية دين مارتن الذي يكبره بتسع سنوات. أغواه المغني صاحب الصوت الدافئ. اتفقا معاً، على صيغة معينة في العمل تعتمد على الكثير من التمثيل والمشاركة والتداخل. يقاطع أحدهما الثاني دائماً. حققا نجاحاً ساحقاً، فأصبحا حديث المدينة. بفترة قياسية، تضاعف أجرهما وتدافع الناس لمشاهدتهما. ثمة شيء غير مسبوق في هذه العروض: التفاعل. انهما الشخصيتان النقيضتان في كلّ شيء، ومع ذلك عليهما التعايش. لويس الأخرق ومارتن الواثق من ذاته وسحره. هذه الثنائية طوّرها لويس لاحقاً في أفلامه.   

من الطبيعي والحال هذه ان تلتفت إليهما السينما. أول فيلم لهما كان من توقيع جورج مارشال في عنوان "صديقتي إيرما" (١٩٤٩). تصدّر الفيلم شبّاك التذاكر لأسابيع. الثنائي استأثر بالأميركيين، فمَن اضحكهم خطف قلوبهم. استمر الديو لعشر سنين وامتد صيتهما إلى خارج أميركا، قبل ان يتم فسخه لعدد من الأسباب. رغم الكيمياء، فالمصالح الشخصية والرغبة في عدم ربط النجاح بطرف آخر وأيضاً الخوف من ان يسرق أحدهما نجومية الآخر خلف هذا الخيار. في مقابلة أخيرة مع "هوليوود ريبورتر"، قال لويس ان تلك الفترة كانت الأسعد في حياته.

 في “ذا ناتي بروفيسور”.

اليوم، عندما نعود إلى الأفلام الـ١٧ التي جمعتهما بين ١٩٤٩ و١٩٥٦، نشعر كم الزمن الذي نتحدث عنه، صار بعيداً. بالتأكيد، كانت هذه الأفلام متفاوتة القيمة، فيها الغث والثمين، أفضلها من توقيع فرانك تاشلين الذي عمل لوالت ديزني وله خبرة واسعة في مجال الكوميديا.  

نتيجة هذا الإنفصال في العام ١٩٥٦، دأب لويس على تطوير سكيتشاته للسينما. انصرف إلى العمل بشكل انفرادي، فمثّل تحت ادارة تاشلين ثلاثة أفلام: "روك - ايه - باي بايبي"، إعادة لفيلم أخرجه برستون ستورجز عن شاب وحيد مغرم بصديقة الطفولة. تبعه "صبي الغيشا" عن ساحر أرنبه أكثر موهبة منه، و"سيندرفيللا"، وهو نسخة ذكورية لقصّة "ساندريللا". هذا قبل ان يدخل لويس في مرحلة سيتولى فيها الإخراج بنفسه بدءاً من العام ١٩٦٠. فأنجز "خادم الفندق"، وهو عبارة عن متتاليات من الطرافة لا تنطوي على أي حبكة بطلها خادم في فندق في ميامي. لا يتفوه فيه لويس بأي كلمة.


في “رجل السيدات”. 

فيلمه الثاني كمخرج، "رجل السيدات"، قفزة نوعية وجريئة، أكد فيه براعته التقنية ويده الإخراجية المكثفة. الفيلم عن مغامرات شاب أخرق وجد وظيفة في مدرسة داخلية للبنات بعد خيبة عاطفية. مع "الحاجب"، عاد إلى اسلوب فيلمه الأول المصوَّر بالأسود والأبيض. مجرد نمر كوميدية ضمن تسلسل يكشف خفايا مصنع الأحلام الهوليوودية. التصرفات الخرقاء هي سيدة الموقف. عبر استخدام اختزالات زمنية، راهن لويس على ذكاء المُشاهد وقدّم اداء يحبس الأنفاس ويلامس السكيزوفرينيا.  

عام ١٩٦٣، قدّم لويس ما يُعتبر إلى اليوم تحفته السينمائية: "ذا ناتي بروفسور"، المستوحى بشكل حر جداً من رواية شهيرة لستيفنسون. تولى مراحل إتمام الفيلم كافة، كتابةً، وإخراجاً وتمثيلاً. اضطلع بدورين في هذا العمل الذي رفعه إلى مصاف السينمائيين الكبار، وخصوصاً في فرنسا حيث تحمّس له النقّاد كثيراً. يقال انه استند إلى دين مارتن لتأليف احدى الشخصيتين.

أقلام أميركية كانت تتعرض إلى أفلام لويس بشكل سلبي واصفةً اياها بأحط النعوت. لكن الكوميدي كان يرد دائماً بأن لوريل وهاردي تلقيا المعاملة نفسها. في المقابل، وقف إلى جانبه ودعمه مجمل النقّاد الفرنسيين في تلك الفترة. جماعة "الموجة الجديدة" انبهروا بلازمة الثنائية لديه. السينماتك الفرنسية نظّمت استعادة لأعماله. جيل دولوز حلل مجموعة من أفلامه، وروبير بينايون من مجلة "بوزيتيف" فنّد ثوريتها ورأى فيها تعبيراً عن القلق المزمن لدى الأميركيين. هذا فتح المجال لسخرية من جانب الأميركيين الذين لم يروا في لويس سوى رجل استعراض، خلافاً للفرنسيين الذين أشادوا بالفنان المتمرّد الذي فيه.

مع روبرت دو نيرو في “ملك الكوميديا”.

بعد فترة هبوط درّس خلالها السينما في جامعة جنوب كاليفورنيا وانتقل اثناءها من باراماونت إلى كولومبيا، قدّم لويس "الجبهة في أي إتجاه؟"، فيلم - مرافعة ضد النازية. انها بداية السبعينات ورياح التغيير هبّت على الأفلام. الزمن انشقّ وها ان أميركا التي تتخبط في فيتنام، على أبواب ثورة سينمائية جديدة ستخرج من رحمها "هوليوود الجديدة". في تلك الأجواء، حاول لويس تحقيق مشروع العمر، "اليوم الذي بكى فيه المهرج"، استناداً إلى قصّة شهيرة لمهرج ألماني تم ترحيله إلى معسكر اعتقال نازي لإضحاك الأطفال الذين تم اقتيادهم إلى غرف الغاز (روبرتو بينيني حقق شيئاً مشابهاً لهذا في "الحياة حلوة”). تعرّض المشروع لإنتكاسات كثيرة. ضحّى لويس من أجله، فخسر مثلاً ١٧ كيلوغراماً من أجل تجسيد الدور الجدي الذي كان يخشاه منذ البداية. لكن المنتج تعرّض للإفلاس. الفيلم ظل غير مكتمل، وهو يُعتبر من الأفلام الملعونة في تاريخ السينما.  

أثناء مشاركته في مهرجان كانّ عام ٢٠١٣.

الثمانينات عبرها لويس بلا ألق يُذكر. مارتن سكورسيزي اقترح عليه دور مقدم برنامج تلفزيوني صعب المراس في "ملك الكوميديا" (١٩٨٣). بعده مباشرة، اشتغل في فرنسا فشارك في كوميديات متواضعة يمكن اعتبارها النقطة السوداء في مسيرته.  

طوال سيرته، استثمر لويس موهبته في أماكن مختلفة موزعاً طاقاته على جبهات عدة. لا ننسى أيضاً عمله الإنساني المشرف في التلفزيون الأميركي لجمع التبرعات. حتى في هذا، لم يسلم من السهام التي وجهها ضده مَن اعتبره استعراضياً يستغل العواطف. في التسعينات، أعاده أمير كوستوريتسا إلى الواجهة مع "حلم أريزونا". من وقتها، لم يطل الا في ثلاثة أفلام سينمائية أهمها "فاني بونز" لبيتر تشلسوم، نوع من تحية إلى فن البورلسك.

اقرأ أيضاً: جورج روميرو عاش ومات بعيداً من هوليوود

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم