الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مديح المثنَّى أو كانط ضدَّ هيغل

المصدر: "النهار"
بقلم موسى وهبه
مديح المثنَّى أو كانط ضدَّ هيغل
مديح المثنَّى أو كانط ضدَّ هيغل
A+ A-

نعيد، في ما يأتي، نشر افتتاحية الفيلسوف موسى وهبه، التي صدَّر بها العدد الأول من مجلّة "فلسفة" في خريف العام ٢٠٠٣، وكان يكتب الافتتاحية بوصفه رئيسًا للتحرير. ومن المعروف أنّ قراءة وهبه لكانط قد أحدثت منعطفًا كبيرًا في حياته، بقيت آثاره حتى رحيله. والنص عبارة عن حوار أو جدال متوَهَّم بين كانط وهيغل حيث ينتفض كانط ضدّ هيغل ويرفض أن يتمَّ تجاوزه على طريقة هيغل، كما يرفض أن يكون ممهّدًا لهيغل، ويعتبر نفسه محطّةً رئيسة لا يمكن تجاوزها ولا بدّ من العودة اليها في تاريخ الفلسفة. ومن اللافت أنّ وهبه يستغل صيغة المثنّى التي لا تزال إحدى الصيغ المميِّزة في اللغة العربيّة ليلعب كانط ضدّ هيغل وليلعب الاثنان ضدّ الواحد والموحّد (الدكتور جمال نعيم). 

يأخذ هيغل على كانط، أو هو يأخذ عنه بالأحرى، كلَّ شيء تقريبًا. يقارعه صنوًا بصنو، ويحذو حَذْوَه نعلًا بنعل.

وهو إذ يُطبِّق عليه منهجه في الاستيعاب والتخطّي، في النسْخ على ما كان يصحّ أن يُقال، يُطْبِقُ عليه من جهاته الأربع ويحيله الى أمرٍ مضى من غير رجعةٍ على ما يحسب. يصنع معاصرتَنَا ولا بدّ ويمكِّننا إذ يتجرَّأ على الأنوار، من أن نَتَغَرغرَ بنقد الحداثة ومن أن نلعنَ الميتافيزيقا ونبْجَحَ بالبُرْء منها.

قلتُ، ألعب كانط ضدّ هيغل، ألعبُ الإثنين ضد الواحد والموَحِّد، ضد الجَملة التي بمثابة الواحد العائد الى ذاته. أستعيد كانط إذًا. أعيده في مواجهة هيغل. أُعطيه الكلام فيروي هو وأُنصتُ إليه يقول:

"قلت (يقول كانط): يفخر هذ المعلِّم بأنه جاء بعدي. يصنعُ من "الجَيْءِ بعدُ" مقامًا: يُعلن ما بعدُ أتمَّ مما قبلُ، ويزعم أن فيه يحقّ ما كان غيرَ مستحِقّ. فَلِمَ لا أنهضُ إليه أعيده الى حجمه الذي يستحِقّ؟!

"فيقول هيغل: لن تستطيع ذلك مهما فعلتَ. فأنا رسختُ في البداهةِ وصرتُ الى الأمم. ثم أعلنتُني النهايةَ والخَتْمَ وقلت: لا تفلسفَ بعدي. ثمّ تسامحتُ وأضفت: إلا على سبيل الشرحِ والتأويل، أو التطبيقِ أوِ الاعتراضِ على بعضِ ما قلتُ ببعضيَ الآخر. إلا أنني حسبتُ لكل اعتراضٍ ممكنٍ حسابًا مسبقًا. ألا ترى بعد قرنين إلا قليلًا على فيمياءِ الروح، لا أحد يدخل إلا من الباب الذي عيّنتُ للدخول؟

"قلتُ: خفّفِ الوطءَ ولا تكنْ دعيًّا. ألا ترى أنه يُعادُ إليّ أيضًا في كل مطرح، وإن بخفر واستحياء؟ ألا يعني ذلك أن لا شيءَ انتهى، أن لا شيءَ ينتهي لأنَّ الأصل لا ينتهي، لا يتناهى تقول العرب.

"فانتفض وامتعض ثم قال: ومن هذه العربُ في آخر الأزمان، وفي أية ورطة تورّطني؟ كيف لي أن أعلن عن نفسي إذًا في هذه اللغة العتيقة؟ كيف أقول فيها الـ أَنْزشْ (ansich) والـ أنْفوْرزِشْزَيْن (Anfürsichsein)؟ وكيف لي أن أزعمَ أنني أُأفْهِبُكَ (aufhebe dich) أو أنني أقيمُ das absolute Wissen، ألا ترى أكثرهم علمًا ماذا فعل بـ مَيْنْ Phänomenologie des Geites حين عرّبه بـ علم ظهور العقل؟ ما كان ينقصني إلا أن أعبِّرَ عن نفسي بالعربية!

"قلتُ: فات الفَوْتُ الآن. وها أنت تعبّر بالعربيّة، وبعربيّة فصحى أيضًا. فادفعْ عن نفسك إنْ كنت من الصادقين. أقرَّ[كذا] أنك افتريتَ عليّ وقوّلتَني ما لم أقُلْه، وأشهدْتَ عليَّ الجمهور. استنجدْتَ بالحسّ المشترك. وما كان ينقصُني سوى أن تزعمَ أنني بشّرتُ بك أو كدتُ لولا الحياء، وأن تزعمَ أني أكادُ أقول الحقَّ الذي عليه أن يأتيَ بالضرورة على يديكَ فعيّنتَني السابقَ بلا مفرّ.

"قال هيغل: ما زلتَ تُقيمُ حيثُ أنت: في الفاهمة الثابتةِ إيّاها. في منطق عدمِ التناقض. في ميتافيزيقا الهويّات الجامدة. في الثُّنائيّة البائسة. أما آنَ لك أن تتخلَّى عن معاندتك لما يفقأُ العينَ بجلائه وتحقُّقه؟ أن تقرَّ أخيرًا أن الاثنين انشقاقُ الواحد، وأن تأليفَهما آت لا محالةً في ثالث يستعيد الواحدَ أو يعود اليه ليكونَ أولًا من جديد؟ أما آن لك أن تُدرِك أنّي بجدلي التأليفي أنقذتُ ماءَ وجهِك إذ عيّنتُك سابقي. فانصرفْ عني الآن ودعْني أعودُ الى مهنتي.

"كنتُ أودّ أن أقول لهيغل: لم أكن سابقًا لأحد ولا مكمّلًا. ولا أرى ما يجري على أساسِ سابقٍ ومسبوق. بل إن ما كان يشغلُني كان غيرَ ما يشغلُك بالمرّة. كنتُ أودُّ أن أقولَ له... لكنه كان قد صار كبحّارة عولِسْ، أصمَّ لا يسمع، وكان قد صرف وجهه عني وراح يشرحُ لطلّابه ويتكلمُ عليّ كما يُتكَّلَّمُ على غائب.

قال: "الخلاصةُ الأخيرةُ لفلسفة كانط هي الأنوار. لكنَّ للأنوارِ معنى أنَّ كلًّ شيء، كلَّ وجودٍ، كلَّ تصرّفٍ يجب أن يكونَ شيئًا ما مفيدًا؟ أيْ إنه يجبُ بالضبط أن لا يكونَ له إنيّة، وأن يكونَ مجرّدَ لَدُنَ غير. هذا الغيرُ هو الإنسان، او الوعيُ-الذاتيُّ العامّ (الاوْتِعَاء) أي جميعُ الناسِ بعامّة.

وهكذا فإنّ التفكير (يقصد العقل) عند كانط يرى الى ذاته كمطلقٍ وعينيٍّ وحرٍّ وحدٍّ نهائيّ، فلا مرجعيّةَ تعلو مرجعيّتَه، ولا مرجعيّةَ لأيِّ نِصابٍ ما لم يتقدم النصابُ بأوراقِ اعتمادِهِ أمام التفكير. لكنَّ هذا التفكيرَ هو مجرد تفكيرٍ ذاتيّ: كلُّ ما يكون، بمَا فيه أنَ يكونَ الله، هو مجردُ واقعة من وقائعٍ وعيي أنا... إلّا أنَّ التفكيرَ الذاتيَّ هذا لا قدرةَ له على عَرْفِ ما هو إنًّا ولدُنًا. لا يمكنه أن يعلمَ أيَّ شيءٍ حقيقيّ، بل هو يعلم الفَيْنُمانَ وحسبَ"..

وتنحْنحَ ثمَّ تابع رافعا نبرتَهُ قليلًا: "وهكذا تُدْخِلُ فلسفةُ كانط العلْمانَ في الوعي، -وهذا جيّد- كنّها تُثَبِّتُهُ من وجهة النظر هذه بصفة عَرْفٍ ذاتيٍّ ومتناه. فتنهي الميتافيزيقا الفاهميةَ بما هي دغمائيةٌ موضوعيةٌ، لكنها تستبقيها في الحقيقة كدغمائيةٍ ذاتيةٍ وتتخلَّى عنِ السؤالِ عمّا هو حقيقيٌّ إنًّا ولدُنًا...

"-عند هذا الحد من التعليم استغرقتُ في الضحك، بل قل ابتهجتُ أيضًا لقُدرةِ هذا المجادلِ على قولِ الشيء نفسِهِ بأشْكال لا تُحصى فتُوهِم بأنه يتقدّمُ بالسامعِ الى أمكنةٍ أخرى: هنا مثلا تعني الميتافيزيقا المنهجَ غيرَ الجدليِّ الذي يتعاملُ معَ المعاني بوصفها ذاتَ ثباتٍ نسبيّ.

وابتهجتُ أيضًا لعلمي أنَّ ما لم يُسامحْني عليه هذا الأصمُّ هو ذمّي الجدلياتِ وعدُّها منطقًا للغلطِ لا للحقيقة. ولذا لا يفتأُ ينعتُني بالفيلسوف الثنائيّ. (ولو عرف العربيّةَ لكان قال: فيلسوف المثنَّى) ولا يفتأُ يُلخصنُي الى ثنائياتٍ ثابتة: ثُنائيّة الفَينُمان والنومان. وثُنائيّة المكان والزمان. وثُنائيّة الحساسية والفاهمة. وثُنائيّة الفاهمة والعقل وثُنائيّة الأفهوم والحدس، والأفهوم والأمثول (الفكرة) وثُنائيّة الإنشاء والتنظيم.

بل تلك الثُنائيّة التي لم يغفرها لي قطّ، عنيت ثُنائيّة الكون والوجود (Sein und dasein) – لم يكن هايدغر قد ولد بعد. سامحه الله هو الآخر أيضًا – في الكلام على الكائن الأسمى. وهو حين يتطرّقُ الى تمييزي هذا ويذكرُ أمام طلابِه تفريقِيَ الشهير بين مئة دينارٍ فعلية ومئة دينارٍ متوهّمة يستشيطُ غيظًا ويقول: حسبَ التصوّرِ الكانطيّ يمكثُ أبدًا في الفَرْقِ (يقصدُ الفرقَ الذي يُحْدثُهُ التفكير): فالثُنائيّة هي الملاذُ الأخير: كلُّ جانبٍ يصلحُ لدُنًا كشيءٍ ما مطلق... الى أن يخرج عن طوره ويصرخ: ليس ثمة ما هو أكثرُ حمقًا من هذه الفلسفة.

"والآن، وقد انهارت معظم العوالم الجميعيّة (أو الجَمْلانيّة) التي استَلْهَمَتِ الجَمْلةَ أوِ الجُمْلةَ (Totalität) الهيغليّة، الآن بِتُّ أرى بشكل أوضحَ أهميّةَ إصراري على استبعاد الجدل وتحوّل الواحد جدليًّا الى آخر. وبتّ أكثرَ فهمًا لغضب هيغل من هذا الاصرار، المعاندة على ما يقول. فعندي مثالًا: المكانُ والزمانُ حدسانِ أصليّان لا ينحلّ أحدهما في الآخر ولا يتحولُّ اليه. وهما ليسا فرعيْنِ مشتقّيْنِ منَ الحساسية بل هي تقومُ بهما بالأحرى. هما الأصلُ، يمكنك القولُ، وهي الملحق. وهما لا يتشابهان. ولا تُعجبني معاملتهما على طريقة هيغل. فالمكان تكون أقسامه معًا (sind zugleich) الى ما لا نهاية ويكون بعضُها بَرّانِ بعض. أما أجزاءُ الزمان فلا تكون معًا ولا تتجاور بل تتوالى وتندثرُ في الزمانِ الواحِدِ اللامتناهي. ولا ينفع معي إغواءُ هيغل بقوله إني أتلمّسُ وحدتَهما أو أكاد حين أقولُ في أقسام المكان إنها تقوم معًا. إن المعيّةَ هنا ليست أوانًا من آونة الزمان. وأنا مصرّ على ذلك وباقٍ على التفريق، أي على تفريق ما هو فارقٌ أصلًا مثلما أنا باقٍ ومصرّ على التفريق بين الفيْنُمان والشيء- في –ذاته المحهول. وعلى هذا التفريق أقيمُ قوليَ كلَّه وإن كرِهَ الأقربون. وهما عندي ليسا فقط لا يتشابهان بل لا ينتميان أصلًا الى طبيعة واحدة ولا الى عالم واحد.

ويضحكني – يبهجني إصرارُ هذا المعلم على أنّ التمييزَ مرحليّ وأن الشيءَ حين يتظاهرُ بكل ظاهراته لن يبقى شيءٌ ما فيه ليقالَ عليه: شيءُ-في-ذاته.

وأطرب لمصير البودينغ (الكعكة) التي تُعجنُ وتُطبخ وتُزْدرَدُ فلا يبقى أي شيء-في-ذاته منها وقد ازدردتَها... قلتُ أطربُ لما صارت اليه: ذريعةً شعبية وانتصارًا للحسّ المشترك ضدّ الشيء-في-ذاته، وضدّ التفلسف في الحقيقة. فهيغل لا يتورّع عن الانتصار بالحسّ المشترك مثلما لا يتورّع عن اشياءَ كثيرةٍ أقلّها العودةُ الى الموقف الطبيعيِّ والنكوصُ دون النقد بحجّة عدم الحاجة اليه بعد مساواتِهِ زورًا بالمعرفة.

لن أتوغلَ اليومَ أكثر. أردتُ فقط ان أرفعَ في وجه هيغل والسلالةِ الهيغليّةِ المعلنةِ أمِ المضمرة:

إن الإثنين أسبق من الواحد. إن الواحد لا يسمى واحدًا إلا لأنه ليس اثنين أو لأنه أحد اثنين. وإنَّ هذه الأسبقية هي، أنطُلُجيًّا وإبيستيميًّا غير قابلة للنسخ. فلا رجوع إذًا عن الأنوار ولا حياء في الحداثة. وعلى المتغرغرين بما بعدهما أن يروا ماذا هم فاعلون!"

قلتُ في مائتَيْ سنةٍ على رحيلِ كانط:

قُلِ الحمدُ لله الذي أنْطَقَنا الفُصْحى وعلّمنا المثنَّى فأمْكَنَنا منَ القوْل: "المرءُ بأصغريه" و"الوطن بجنحيه" [كذا]. وقولَّنا: إنسانٌ لا إنسٌ واحدٌ (إنْسٌ للألفَة وإنْسٌ للوَحشة، حتّى إذا ما غَلَبَ هذا صِرْتَ مستوحشان)، وأرانا أنّ الجسدَ في الحقِّ جسدان، يلتقيانِ حولَ بعْضٍ ولا يختلطان، فإذا ما انحلّ العقدُ صارَ مجرّد جُثمان.

وأنَّ الكائِنَ القائمَ إيّانِ لا أيٌّ واحِد. فصرنا لمُقتضى الحِكْمة وسلامةِ العقولِ القليلة، نَسألُ: إيَّايَ تعْني؟، أو نقولُ: إيّاكَ أقصدُ بالسلام، وإليه إيّاه أُشير،

فنُعامِلُ المثّنى معاملةَ المفردِ ونستتِرُ على النونِ بالإضافة، كي لا يقعَ خبزُنا على الأرضِ فتلتفِتَ إلينا وتأكُلَنا الخنازير.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم