الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"جنون خالص"... إنّها "البطلة القوميّة" الأخت روث "الدكتورة"

هالة حمصي
هالة حمصي
"جنون خالص"... إنّها "البطلة القوميّة" الأخت روث "الدكتورة"
"جنون خالص"... إنّها "البطلة القوميّة" الأخت روث "الدكتورة"
A+ A-

المأتم وطني. واعلنه رئيس الوزراء الباكستاني شهيد خاقان عباسي الذي قال في بيان ان "كل الامة الباكستانية مُدينة للاخت روث ولخدماتها المعطاءة التي لا مثيل لها من اجل القضاء على الجذام من البلاد". واضاف: "لقد اعطت عددا لا يحصى من الناس املا جديدا، واثبتت، من خلال كدحها اللامع، ان الخدمة الانسانية لا حدود لها".

(أ ف ب) 

الساعة 11,00 ق.ظ في كاتدرائية القديس باتريك في كراتشي، يلتئم الجمع حول الاخت روث التي توفيت عن 87 عاما الخميس 10 آب (1929-2017)، قبل ان توارى الثرى في المقابر المسيحية في غورا كابريستان، وفقا لنعي اصدره "ماري اديلايد ليبروزي سنتر" في كراتشي، المركز الطبي الذي اسسته الاخت روث لعلاج مرضى الجذام.   


"عندما تتلقى دعوة مماثلة" 

نقرة على "غوغل" بحثا عن الجذام في باكستان، ويأتي اسم الاخت روث في الصدارة. اكثر من نصف قرن امضته تلك الراهبة وهي تواجه داء الجذام، وجها لوجه، بين مرضى فقراء ومتروكين. "الجذام يؤدي الى فقدان الشعور في اليدين والقدمين. وبالتالي، قد تأتي الجرذان في الليل، وتقضم القدمين او اليدين اللتين فقدتا قدرتهما على الشعور"، على قولها.


في عائلة بروتستانتية، ولدت روث كاثرينا مارثا في لايبزيغ –المانيا في 9 ايلول 1929. مناضلة اجتماعية منذ فتوتها، مراهقة طبعتها اهوال الحرب العالمية الثانية، مما شكّل لها حافزا لدرس الطب، في الخمسينيات من القرن الماضي، في جامعتي ماينتس وماربورغ في المانيا الغربية سابقا، بعدما عبرت من المانيا الشرقية بطريقة غير شرعية. "خلال الحرب في المانيا، فكرت في انه يجب ان اقوم بشيء في حياتي، شيء يعطينا سلاما وسعادة اكثر".  


في تلك المرحلة، كادت ان تتزوج احد زملائها، قبل ان تختبر ما تسميه دعوة من الله. "عندما تتلقى دعوة مماثلة، لا يمكنك ان ترفضها، لانك لست انت من قمت بهذا الخيار"، على قولها. اعتنقت الكاثوليكية. وبعد تخرّجها كطبيبة، دخلت رهبانية "بنات قلب مريم"، مكرّسة ذاتها لخدمة الانسانية. العام 1960، ارسلتها الرهبانية الى الهند، في مهمة رسولية.  

كانت تبلغ 31 عاما عندما وصلت الى باكستان، للمرة الاولى، في 8 آذار 1960. كانت في طريقها الى الهند، وباكستان وسيلتها الوحيدة للوصول اليها، بعدما طال انتظار تأشيرة الدخول الهندية. لكن بعدما شاهدت في كراتشي الظروف التي كان مرضى الجذام يعيشون فيها، لم يسعها ان تغادر. "ما شاهدته في ماكلود رود (مستعمرة الجذام) تخطى كل ما كان في وسعي تخيله"، تروي.  


لحظة غيّرت كل شيء 

ذلك المكان هزّها. مرضى الجذام حجزوا انفسهم في احياء فقيرة. "كل المياه القذرة الآتية من كراتشي تجمعت هناك، وانتشرت رائحتها الكريهة، بينما غزت الجرذان المكان. كانوا (اي المرضى) يعيشون وسط كل هذا، بأقدام متقرحة". لحظة مصيرية غيّرت كل شيء، و"كل الباقي جاء نتيجتها"، على ما تخبر.

ولم يسع الاخت روث سوى البقاء هناك، الى آخر ايام حياتها. "كان قلبي مكسورا عندما شاهدت ظروف عيش المرضى هناك. لم يقولوا انه لا يمكن الامور ان تستمر على هذا المنوال، او انه يجب تغييرها. اعتقدوا انه اذا كنا مصابين بالجذام، فان هذا ما تقدمه الينا الحياة، وهذا كل شيء. لقد جعلني ذلك افقد صوبي". "لكن ما خطيئتهم اذا كانوا اصيبوا بالجذام؟ وقررت انني لن اذهب الى اي مكان آخر، وانني سافعل شيئا ما هنا. الشكر لله انني فعلت".

 اول مريض جعل الاخت روث تحسم قرارها "شاب افغاني كان يزحف على يديه ورجليه في المستوصف الذي كنا فيه"، على ما تروي. "كان يتصرف كأنه من الطبيعي ان يزحف انسان في الوحل، على يديه ورجليه، مثل الكلب". في كراتشي، اسست مستشفى لمرضى الجذام، "ماري اديلايد ليبروزي سنتر". واصبح مقصد كثيرين في باكستان، وايضا من افغانستان، خصوصا انه يؤمن العلاج والتأهيل مجانا.  


"في احلامي الاكثر جنوناً" 

لطالما اعتبر داء الجذام، في المعتقدات الشعبية والدينية، انه لعنة من الله. وحتى السلطات الباكستانية لم ترد الإقرار بوجود الداء، وكان المرضى متروكين لمصيرهم. "قالوا لي ايتها السيدة، نحن متأسفون، لكن ليس لدينا جذام. اجبتهم: تعالوا معي وسأريكم. قالوا لي: لا. ففكرت في ما يمكن القيام به. وقمنا به".


لم يكن الامر سهلا اطلاقا. ادركت الاخت روث ان المرضى لا يأتون الى المركز الطبي الا بعد ان يعجزوا عن اخفاء التشوهات التي تصيبهم بسبب المرض. وبالتالي يكون الاوان فات. فاخذت الامر على عاتقها. لاحقت وفريقها المرض حتى جذوره، وتوجهت الى مختلف المناطق، لا سيما البعيدة جدا، لمعالجة المرضى في المراحل الاولى للمرض. وهذا يعني مواجهة اخطار وصعوبات في التنقل، فقط لايصال الدواء الى المحتاجين.  

 "كنا نلاحق المرضى، في اي وقت، ليل نهار، حتى خلال الاعياد الاسلامية"، تروي. العام 1965، انشأت مع طبيبة الامراض الجلدية الباكستانية الدكتورة زارينا فالزيلبلوي، البرنامج التدريبي للعمال الطبيين. ثم اطلقت، مع الدولة الباكستانية، البرنامج الوطني للتحكم بالجذام العام 1968.  


على مر الاعوام، عالج مركزها اكثر من 56 الف مريض، ودرّب عشرات مئات الاطباء والعاملين الطبيين. كذلك، فتح 157 مركزا طبيا في ارجاء البلاد، لعلاج مرضى الجذام، مع فريق طبي يضم حاليا 800 عنصر. بفضل كل جهود الاخت روث، اعلنت "منظمة الصحة العالمية" باكستان العام 1996 اول دولة آسيوية تقضي على الجذام. "في احلامي الاكثر جنونا، لم اتخيل اننا سنتمكن من السيطرة على الجذام. اي منا لم يفكر في ذلك"، على قولها.   


"الخبرة الجوهرية لحياتي" 

فعلت الاخت روث الكثير، وهي تقرّ بذلك. "لكن هذا النجاح ليس منّي. العمل انطلاقا من كوني اداة هو الخبرة الجوهرية لحياتي"، تكتب في سيرتها الذاتية "حياتي، جنون خالص". الى جانب الاهتمام بمرضى الجذام، ارادت ان تدرب جهازا طبيا يواكب المرض. "حاولت ان انقل معرفتي الى الآخرين، واشكل فريقا يمكنه تولي المسؤولية، لان الامر كان واضحا لي ان الجذام سيبقى مشكلة، حتى بعد وفاتي".


في ارقام ينشرها مركز الاخت روث، يبلغ مجموع المرضى المسجلين لديه 56,780 الفا، 6,615 الفا لا يزالون يحتاجون الى خدماته، 531 يخضعون حاليا للعلاج، و446 تسجلوا فيه حديثا. بالنسبة الى الاخت روث، ما يحتاج اليه المرضى "في شكل عاجل هو شخص يهتم بهم جديا ويحبهم". عن كل هذا كتبت كثيرا، وفي رصيدها 9 كتب. 

(أ ف ب) 


العام 1988، منحتها الدولة الباكتسانية الجنسية، تقديرا لخدماتها الانسانية. كذلك، نالت 21 جائزة عريقة، من باكستان ودول اخرى، ابرزها جائزة "رامون ماغسايساي"، جائزة "هلال الامتياز" الباكستانية، جائزة "هلال باكستان"، وميدالية "ستاوفر" الألمانية...  


وكانت ممتنة. في سر بعض المقربين انها عمدت، عندما كانت الامور تسوء في المركز ماديا، الى بيع بعض هذه الجوائز لتأمين المال للمرضى، على ما يكشف السيد هايدر، احد الموظفين في المركز. "لم تكن هذه الجوائز تعني لها الكثير، خصوصا اذا كان المرضى يعانون".  


راهبة "غير عادية" 

بالنسبة اليها، "يجب الا نفقد ايماننا بالانسانية. الانسانية كالمحيط. اذا كانت بعض القطرات فيه قذرة، فالمحيط لا يصبح قذرا". لم تكن راهبة عادية. ولم ترد هي ايضا ان تُعرف بانها كانت عادية. "لم اكن عادية. لا اعتقد ذلك"، تقول. المانية الاصل، غير ان "قلبها كان دوما في باكستان"، على قول رئيس الوزراء عباسي. هي ايضا وقعت في غرام هذه البلاد، "واذا اتيح لي ان اولد من جديد، اود ان آتي مجددا الى باكستان"، كانت تقول.

الاربعاء 9 آب، انتشر الخبر. الاخت روث أُدخِلَت قبل ايام (في 4 آب) الى مستشفى آغا خان الخاص في كراتشي. حالتها متدهورة، وتعاني صعوبة في التنفس، على ما افادت وسائل اعلام باكستانية. مضاعفات بسبب الشيخوخة ومرض القلب، "حالتها غير مستقرة"، و"الاطباء ليسوا متفائلين". ساعات قليلة، وأُعلِنت وفاتها. الاخت روث انطفأت نحو الساعة 4,00 فجر الخميس 10 آب (في التوقيت المحلي). وذكراها ستبقى "ذكرى بطلة قومية"، بتعبير مجلس الاساقفة الكاثوليك في باكستان، "اسطورة لم تكن خدماتها للانسانية سوى تجسيد صاف لمحبة الله".    

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم