السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

التقرير الفصلي الاقتصادي لبنك عوده: لا مجال للتفاؤل المفرط ولا للتشاؤم الدائم

التقرير الفصلي الاقتصادي لبنك عوده: لا مجال للتفاؤل المفرط ولا للتشاؤم الدائم
التقرير الفصلي الاقتصادي لبنك عوده: لا مجال للتفاؤل المفرط ولا للتشاؤم الدائم
A+ A-

سجّل الاقتصاد الحقيقي في لبنان تحسناً طفيفاً خلال الأشهر القليلة الأولى من العام 2017، إلا أنه بقي دون المتطلبات اللازمة لتحقيق نهوض ملموس عقب التباطؤ الذي ساد لأكثر من خمس سنوات. يجدر الذكر أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان الذي كان قد بلغ متوسطاً سنوياً قدره 9,2٪ بين عامي 2006 و2010 إبان فترة الفورة الاقتصادية في البلاد، انخفض إلى متوسط سنوي قدره 1,7% منذ العام 2011. 

ويشير تحليل مؤشرات القطاع الحقيقي في النصف الأول من العام 2017 إلى أن وتيرة نمو هذه المؤشرات كانت متفاوتة. فمن بين المؤشّرات التي سجّلت ارتفاعاً نذكر عدد السيّاح (+14,2%)، قيمة المبيعات العقارية (+12,3%)، إنتاج الكهرباء (+11,1%)، عدد المسافرين عبر المطار (+6,9%)، الصادرات (+3,9%). في حين انخفضت كل من تسليمات الإسمنت (-4,4%)، حجم البضائع في المرفأ (-1,5%)، عدد مبيعات السيارات الجديدة (-1,3%)، المساحة الإجمالية لرخص البناء الجديدة (-0.8%)، قيمة الشيكات المتقاصة (-0,4%) والواردات (-0.2%).

من هنا، فقد بلغ متوسط المؤشر الاقتصادي العام الصادر عن مصرف لبنان خلال النصف الأول من العام 2017 متوسطاً قدره 304.2، مما يشير إلى نمو بنسبة 4,8٪ مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. مع الإشارة إلى أن النصف الأول من السنوات الثلاث الماضية كانت قد سجلت متوسط نمو في المؤشر الاقتصادي العام بنسبة 2,5%، مما يشير إلى أن وتيرة النشاط الاقتصادي قد سجلت تحسناً نسبياً هذا العام.

وعلى هذا النحو، فإن التحسن الطفيف في النشاط الاقتصادي هذا العام مدفوع بالاستهلاك الخاص بدلاً من الاستثمار، مع استمرار حالة الترقب والتريث السائدة في أوساط المستثمرين وما يرافقها من تأجيل للقرارات الاستثمارية الكبرى كما يشهد على ذلك نمو حركة التسليف الواهن هذا العام. من ناحية أخرى، تأتّى نمو الإستهلاك الخاص هذه السنة من تحسّن طفيف في استهلاك اللبنانيّين المقيمين، ومن توافد عدد أكبر من اللبنانيّين غير المقيمين، ومن التحسن النسبي للنشاط السياحي.

وعلى هذا الأساس، من المرجح أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للعام 2017 أعلى بقليل من النمو الذي سُجل في السنوات الأخيرة. بحيث من المتوقع أن يتحقق هذا الارتفاع في النمو في سياق تحسن كل من حركة التدفقات المالية نحو لبنان ووتيرة نمو الودائع، ما يتماشى مع الإشارات التي ظهرت في أداء القطاعات الخارجية والمالية منذ بداية السنة بشكل عام.

في الواقع، سجل القطاع المالي اللبناني أداءّ جيداً منذ بداية العام. ففي سياق نمو نسبته 9% في الأموال الوافدة إلى لبنان خلال النصف الأول من العام 2017 مقارنةً مع الفترة المماثلة من العام السابق، انخفض عجز ميزان المدفوعات من 1.8 مليار دولار إلى 1.1 مليار دولار. بموازاة ذلك، نمت الودائع المصرفية بقيمة 5.2 مليار دولار خلال النصف الأول من العام 2017 مقارنةً مع نمو قيمته 3.1 مليار دولار في الفترة نفسها من العام السابق، إلا أن التحسن في نمو الودائع لم يرافقه تحسن في نمو التسليفات وسط مناخ تشغيلي صعب عموماً.

وعلى صعيد أسواق الرساميل، شهدت البورصة وسوق السندات أداءً متفاوتاً هذه السنة. فأسعار الأسهم المدرجة في بورصة بيروت ارتفعت بنسبة 4,5% في ظل انخفاض القيمة الإجمالية لعمليات التداول بنسبة 13,0%، وذلك من 368 مليون دولار الى 320 مليون دولار. في موازاة ذلك، تقلّصت هوامش مقايضة المخاطر الائتمانية من فئة خمس سنوات بمقدار 36 نقطة أساس في الفصل الأول من السنة الحالية، ما عكس تحسّناً نسبياً في نظرة الأسواق الى المخاطر السيادية بشكل عام.

جدوى الرهانات الطويلة الأجل في لبنان

إن اطراد ديمومة لبنان المالية والنقدية الملحوظة في ظل بيئة شديدة التقلب باتت اليوم في قلب النموذج اللبناني اللا نمطي والذي يثير بشكل متزايد اهتمام الكثير من المراقبين في أوساط المال والأعمال حول العالم أجمع. فالمفارقة اللبنانية المستمرة، والتي يمكن أن تلخص باختصار بعبارة التوازن في خضم اللا توازن، هي ما تميّز السمات الجوهرية للنموذج اللبناني اللا نمطي على مر تاريخنا المعاصر.

وعند التطرق إلى مكامن اللاتوازن، فإن أهم الاختلالات الماكرو اقتصادية التي يعاني منها لبنان تكمن في العجز المالي العام وفي العجز التجاري. ففيما يتعلق بعجز التجارة الخارجية، وفي حين أن لبنان يعاني من عجز خارجي مهمّ حيث لا تغطي الصادرات سوى 15٪ من الواردات، مما يؤدي إلى عجز تجاري يبلغ نحو 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن هذا العجز تغطيه بانتظام تدفقات الأموال الوافدة من الخارج نظراً للأعداد الكبيرة للمغتربين اللبنانيين والتي تترجم بتدفقات مالية ثابتة تعوّض العجز التجاري، ما يجنّب ميزان المدفوعات أي تقلبات غير منتظمة.

أما عنصر الهشاشة الآخر فيتمثل بمعضلة المالية العامة. في الواقع، ومع أن نسبة العجز العام ونسبة المديونية مرتفعتان بالتأكيد ويقتضي خفضهما، إلا أن هنالك عدد من العوامل التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تحليل شؤون المالية العامة في لبنان والانحرافات المالية فيه والتي تدعو الى الإعتقاد بأن لبنان ليس عالقاً في فخّ المديونية العامة. وهذه الاعتبارات تتضمن مكوّن البعد المقيم المتمثل بنسبة 87% من الدين العام اللبناني، الموجودات الخارجية المهمة لدى مصرف لبنان والتي تناهز تقريباً 180% من ديون لبنان السيادية بالعملات الأجنبية، القيمة الإيجابية المستمرة للأصول الصافية للدولة، المخارج المحتملة في ظل نسبة تعبئة موارد تعدّ منخفضة وإمكانية ترشيد الإنفاق، ناهيك عن الاحتياطيات المهمة من النفط والغاز الطبيعي والتي توازي تقريباً ثلاثة أضعاف قيمة الدين العام الحالي في لبنان بشكل عام.

وفي السياق ذاته، في حين أن إقرار سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام من غير المرجح أن يكون له أثر مهم على عجز المالية العامة حيث أن الإنفاق الإضافي البالغ 1,800 مليار ليرة لبنانية يقابله إيرادات إضافية بقيمة مماثلة تقريباً، إلا أنه من المرجح أن يكون للضرائب الجديدة المفروضة آثار انكماشية على اقتصاد لبنان المنخفض النمو أصلاً. هذا ومما لا شك فيه أن رفع الأجور في القطاع العام من شأنه أن يحفز الإنفاق الأسري في الاقتصاد الوطني، ولا سيما الإنفاق الاستهلاكي، إلا أن الضرائب المفروضة ستكون لها آثار سلبية على استثمارات القطاع الخاص في ظل اقتصاد يتسم بمضاعف استثمار أكثر ثقلاً من مضاعف الاستهلاك، مما يولّد تأثيراً انكماشياً صافياً في الإجمال. وأبعد من الضرائب، فإن التحدي الآني يتمثل في محاولة تقليص فجوة التهرب الضريبي المقدّر بأكثر من 4 مليارات دولار، أي ما يعادل 30٪ من إيرادات لبنان العامة الممكن تحصيلها بشكل عام.

ومن المخاوف الأخرى تلك المتعلقة بتأثير ارتفاع أسعار الفوائد في الولايات المتحدة على لبنان، والتي قد تستمر في الارتفاع، مما يخلق ضغوطاً على الأسواق الناشئة ومنها لبنان. إلا أنه من غير المتوقع حدوث خروج للرساميل من لبنان تستدعي زيادة مماثلة في أسعار الفوائد المحلية. ويعزى ذلك إلى الفارق المهم بين أسعار الفوائد المحلية وأسعار الفوائد الأجنبية. ففي الوقت الراهن، يبلغ سعر الليبور الأميركي حوالي 1.1٪، في حين أن متوسط سعر الفائدة على الودائع بالدولار الأميركي في لبنان هو 3.6٪ (5.5٪ على الودائع بالليرة اللبنانية)، أي بفارق نسبته 2.5٪. عليه، هنالك مجال للاستفادة من هذا الفارق، مع الحفاظ على جاذبية لبنان، خاصةً وأنه من غير المتوقع أن يكون ارتفاع أسعار الفوائد الأميركية مهماً من حيث الحجم، بحيث تتوقع الأسواق أن يبلغ سعر الفائدة الأساسي حوالي 2٪ بعد ثلاث سنوات. وهنا يجدر الذكر أنه منذ عقد من الزمن أي عقب رفع الفوائد العالمية، بلغ سعر الليبور آنذاك حوالي 5.25٪، في الوقت الذي كان يبلغ فيه متوسط كلفة الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية في لبنان حوالي 4.75%، أي أقل بمقدار 50 نقطة أساس، في حين أن المصارف اللبنانية قد شهدت زيادة في قاعدة ودائعها بنسبة 7٪ خلال تلك السنة. الواقع أن هنالك عدد من الحوافز لدى المودعين للحفاظ على حساباتهم المصرفية في لبنان غير تلك المرتبطة بأسعار الفوائد، لاسيما الإطار الرقابي الصارم، الممارسات المحافظة المصارف اللبنانية، السرية المصرفية، طبيعة العلاقات مع المصارف اللبنانية، ناهيك عن الصعوبة المتزايدة في فتح الحسابات المصرفية في الخارج بسبب شروط الامتثال. ونظراً لكل هذه الاعتبارات، نعتقد بأن حساسية أسعار الفوائد ليست مهمة جداً، وأنه لا توجد مخاطر مالية جمّة تلوح في المرحلة القادمة المتسّمة بتشدد مالي في الولايات المتحدة.

عليه، من حسن الحظ أن ما يجري في المنطقة بشكل عام يحدث في فترة تتمتع فيه عناصر الحماية أو خطوط الدفاع في لبنان بمكانة جيدة. إذ يتمثّل خط الدفاع الأول في صدّ التحويلات من الليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية (أو المخاطر النقدية)، في حين أن خط الدفاع الثاني يتمثل في صدّ خروج الودائع المحلية إلى الخارج (أو المخاطر المالية). وبالنسبة لخط الدفاع الأول، فإن الموجودات الخارجية لدى مصرف لبنان تبلغ اليوم 42 مليار دولار، أي ما يعادل 75٪ من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه في ظل فترات الأزمات السابقة، أي اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 والحرب الإسرائيلية في العام 2006، تم تحويل ما يقارب 30٪ من الودائع بالليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية. أما بالنسبة لخط الدفاع الثاني، فتمثل السيولة الأولية لدى المصارف بالعملات الأجنبية أكثر من 50٪ من الودائع بالعملات الأجنبية. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه خلال أزمات 2005 و2006، تم خروج ما يناهز 4٪ فقط كحد أقصى من قاعدة الودائع المحلية إلى الخارج. وبعبارة أخرى، في حال تكررت هذه الأزمات، يبقى لبنان، على الأقل مالياً، في الجانب الآمن.

أخيراً، إن المسار الطويل الأجل للاقتصاد اللبناني وللأسواق يعزز قناعتنا بأن الاقتصاد محكوم بالتقلبية، حيث لا ينبغي فقدان الأمل عندما تسوء الظروف كما أنه لا داعي للتفاؤل المفرط حين تتحسن المعطيات. ومن المهم التذكير هنا بأن الرهانات الطويلة الأجل على الأسواق اللبنانية أثبتت أنها مفيدة. فقد ثبُت أن المردودية الفعلية التي تحققت كانت جاذبة بالمقارنة مع علاوات المخاطر المنطوية عليها. فمنذ العام 1993، استطاع المستثمر الذي آثر تحمل المخاطر السيادية اللبنانية أن يحقق مردوداً سنوياً على سندات الخرينة اللبنانية بمعدل 11% وعلى سندات الأوروبوندز اللبنانية بمعدل 7%. ولا شك في أن هذه المردودية كانت جاذبة، بالنسبة إلى تلك المسجلة في الأسواق الناشئة بشكل عام، في سوق لبنانية لم تشهد أي تدهور في سعر صرف العملة الوطنية أو أي تعثر في سداد الديون السيادية أكانت بالليرة اللبنانية أو بالعملات الأجنبية على المدى الطويل.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم