السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

مهرجان - "البندقية 70": رياح الشاعرية هبّت مع ملحمة ميازاكي العائلة الأوروبية لا تنام قريرة العين وكايج يسلك درب التوبة

A+ A-

سيطر الأميركيون بأفلامهم الكثيرة على الأيام الاولى من مهرجان البندقية (دورة 70، 28 آب ــ 7 أيلول). بعد الافتتاح بفيلم "جاذبية" لألفونسو كوارون (مع جورج كلوني وساندرا بولوك)، كان للوافدين الى جزيرة السينما، من مهنيين وهواة، محطة مع فيلمين أميركيين في المسابقة الرسمية: "جو" لديفيد غوردن غرين و"طفل الله" لجيمس فرنكو (نعود اليه لاحقاً).


في الأول، يصوّر المخرج الأميركي الشاب النجم الكاريزماتي نيكولاس كايج الذي خبت نجوميته في المرحلة الأخيرة، بعدما كان أحد رموز شبّاك التذاكر في سنوات الألفين. يؤدي كايج دور رجل يسلك درب التوبة، في أفلمة لرواية كاتب مغمور اسمه لاري براون. لعبة المخرج واضحة وتتمثل في اعادة اعطاء كايج ما فقده، في خطوة تشبه قليلاً ما فعله دارن ارونوفسكي مع ميكي رورك في "المصارع" (2008). واذا كان الفيلم يفيض بمحليته، حاملاً إيانا الى عمق الجنوب الأميركي (الميسيسيبي)، الى ذلك المجتمع الهامشيّ الذي لم يُثر كتّاب السيناريو، فالحقّ ان كايج يخرج من التجربة مثلما تخرج "الشعرة من العجينة"، وهو الرابح الأول في نصّ بليد الايقاع، متكرر وحافل بالمشاهد العنيفة، ولا يتضمن ايّ بعد لافت في نظرته الى شخصية تصفّي حسابها مع الذات والماضي، متابِعةً مسارها التدريبي نحو الولادة الجديدة.
كايج، هذا الممثل الكبير (49 عاماً) الذي سبق ان اضطلع بدور مدمن الكحول بن ساندرسون في "الرحيل من لاس فيغاس" (1995) وحاز عنه "أوسكار" أفضل ممثل، تغيرت تقنياته التمثيلية بين أمس واليوم، بحسب ما صرّح في المؤتمر الصحافي الذي عُقد على هامش المهرجان. في الماضي، عندما كان يحتاج الى أن يبدو سكّيراً في الفيلم، كان يحتسي الخمرة فحسب ليدخل الى جلد الشخصية. أما اليوم، فيكتفي بأن يضع نفسه في الحالة ويطمح الى ايجاد الحقيقة في الشخصية التي يحمل ملامحها. ففي جديد المخرج غرين، الذي كان شارك في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين بفيلم "الأمير افالانش" السيئ الذكر، نرى كايج ملتحياً، يلقي نظرته القاسية على محيطه ويُغرق عدميته في الشرب. يشتغل في الغابات حيث يتعرف بحكم عمله الى مراهق (تاي شريدان)، فيسعى الى حمايته من والده المدمن. قال كايج إن الفيلم قد يكون "عن أيّ شيء تريدونه أن يكون؛ اذا وجدتم انه يتناول أزمتنا الاجتماعية، فليكن"، قبل أن يوضح أن "جو" بالنسبة اليه هو، أولاً وأخيراً، ولادة شخصية ونقلها من العدم الى الحياة. يبقى القول ان كايج هو، حتى لحظة كتابة هذا المقال، واحد من أكثر المرشحين جدية لجائزة التمثيل، وإن كان الوقت مبكراً بعد لإطلاق الترجيحات.


■■■


بعيداً من أميركا الحديثة، أخذنا المخرج الكبير وليم فريديكن (78 عاماً)، الذي كرّمته الـ"موسترا" غداة الافتتاح بأسد ذهبي لمجمل أعماله، الى السبعينات يوم انجز فيلمه "المشعوذ"، الذي استند بشكل واضح الى فيلم "اجر الخوف" (1953( للمخرج الفرنسي هنري جورج كلوزو. شكّل عرض الفيلم لحظة وجدانية استحوذت على الحاضرين وقلوبهم، ولا سيما ان الكلمة القليلة التي القاها فريدكين بعد العرض اعادتنا الى لحظات مجيدة من تاريخ السينما. فريدكين، اسطورة هوليوود، الرجل الحديد الذي ساهم في انشاء حركة "هوليوود الجديدة" في اواخر الستينات، مع جيل كان يطمح الى استرداد السينما من "أرباب الاستوديوات"، قال بتواضع لم يترك محلاً للشكّ إنه تسعده وتحرجه في آن واحد ان ينال جائزة سبق ان اسنِدت قبله الى تشارلي شابلن وانطونيوني وجون فورد. وتوقف عند اسم اورسون ويلز (نالها عام 1970)، الذي شكّل له المدرسة والينبوع. "المشعوذ" (١٩٧٧)، هذا الفيلم المرمم الذي يندرج ضمن مجموعة أفلام أعيد تنقيحها كنوع من اعادة اعتبار الى كلاسيكيات السينما، اعاد توزيع افكار كلوزو في قالب يولي المناخ التشويقي على الطريقة الأميركية الأهمية الاولى، علماً ان فريدكين له نزعة اوروبية في سعيه الى اعطاء الشخصيات ابعاداً فلسفية ودينية وسوسيولوجية. لم تأتِ النسخة الثانية أقل أهمية وروعة من فيلم كلوزو. ففريدكين اشتهر بسعيه الى بلوغ الكمال في غير فيلم تولى انجازه، وكان يطمح دائماً لاحاطة العمل بظروف قاسية. الحكايات كثيرة، سواء تلك التي تتعلق بإنجاز هذا الفيلم او غيره، وينقلها بيتر بيسكيند في كتابه المدهش "ايزي رايدر وثور هائج". هذا الفيلم القيّم هو، كما ذكّرنا مخرج "الشبكة الفرنسية" عندما اعتلى الخشبة لتسلّم جائزته، استعارة لعالمنا الحالي، بحيث ان اربعة رجال غرباء، كلٌّ منهم يكره الآخر، يضطرون الى ان يتعايشوا معاً كي يتغلبوا على التحدي وفق قاعدة: "في التضامن قوة". هذا هو الشرط الوحيد كي لا تنفجر بهم الشاحنة.


■■■


البهتان الذي أصاب المسابقة في هذه الدورة بدده فيلم هاياو ميازاكي "الرياح تهبّ" (مسابقة)، الذي كُشفت تفاصيله مساء السبت، حدّ ان المرء أحسّ فجأة بالانفراج وشعر بأن المهرجان بدأ للتوّ. فالمعلم الياباني حملنا الى أجواء مفعمة بالحلم والممكن المستحيل، التي كانت سمة سينماه مذ بدأ بصناعة الأفلام في نهاية السبعينات. بعد مشاهدة "الرياح تهبّ"، يمكن الجزم، مرةً جديدة انه لو كان للعطف والخيال عنوان فعنوانهما كان ليكون: هاياو ميازاكي، 1941 - طوكيو/ اليابان. هذا الرجل ثروة وطنية وقيمة ثقافية وانسانية وسينماتوغرافية لا تدمرها القنبلة النووية. الرجل المهووس بالملاحة الجوية يحلّق عالياً في فضاء الفنّ السابع مع عمل ملمّ بالتفاصيل، لغته السينمائية الألوان والأشكال أكثر منها الكلمات. الفيلم الذي سبق ان نزل الى الصالات اليابانية في 20 تموز الفائت ينقل سيرة جيرو هوريكوشي، مصمم القاذفات المقاتلة "ميتسوبيشي"، في الحقبة التي أبدع فيها، أي في ثلاثينات القرن الماضي. سيرة عبقري يهدي اليه ميازاكي هذا الشريط الجذاب منذ أول لقطة حتى صعود الجنريك. نحن أمام رحلة لا تقل عن "رحلة شيهيرو" روعة، يلتقطها بنوستالجيا قد تصدم الذين لم يتصالحوا بعد مع تاريخهم (الجمعيات المناهضة للتدخين اتهمت الفيلم بالإكثار من اظهار ناس يدخنون).
ما يأتينا به هنا معلّم التحريك هو ملحمة تعبر مراحل عدة من تاريخ بلاد عرفت الصعود والهبوط، منذ الهزة الأرضية التي ضربت طوكيو (مبهر كيف تصوّرتها مخيلة أبي "الأميرة مونونوكيه")، مروراً بالأزمة الاقتصادية، وصولاً الى دخول أمبرطورية الشمس المشرقة في الحرب التي حولت طائرات هوريكوشي خردة يتصاعد منها الدخان. هوريكوشي، شخصية الصانع النابغة التي يتمحور عليها معظم الحوادث، والشاهد على كل هذه التحولات والتحديات التي في انتظار بلاده، تسكنه حيناً مشاعر العطف والحنان (المتجسدة في لقاءاته الحالمة مع المصمم الايطالي كابروني من جانب، ومعايشته لقصة حبه مع حبيبته ناوكو المريضة من جانب آخر) ويعتمل في داخله حيناً آخر اصراره على انجاح مخططه. هوريكوشي نوع من الأنا الأخرى للمخرج. وسط كل هذه العواصف الجمالية، يحتل التحليق وكل اللقطات البديعة في السماء متن الفيلم، لكن لا ينسى ميازاكي ان يقول إن "الأمبرطورية اليابانية" الحديثة نهضت على العمل الدؤوب والعقل التنظيمي الجبار، فانتقلت اليابان من الانجازات الرديئة والفقر والعوز الى نموذج صناعي يحتذى به. لكن في الوقت نفسه يدعم النص فكرة ارتباط العلم بالسياسة، في زمن الحلف بين ألمانيا النازية والأمبرطورية، وهذا ما قد يتسبب لميازاكي ببعض المتاعب من المحافظين.


■■■


أعلنها مدير الـ"موسترا" ألبرتو باربيرا في المؤتمر الصحافي: "هذه دورة لا يغلب عليها الفرح". هذا ما تأكد لنا عندما شاهدنا الفيلم الألماني "زوجة ضابط الشرطة" لفيليب غرونينغ (مسابقة). زوجان (ألكسندرا فيندر وديفيد زيمرشيد) يعيشان حياة عادية بلا مفاجآت في الريف الألماني الهادئ. الزوج شرطي والزوجة تلازم المنزل لتكرس وقتها للطفلة. ظاهرياً، كل شيء يبدو عادياً ومكرراً في البداية، حتى لحظة دخولنا في حميمية العائلة ويومياتها المتشابهة والمتعاقبة. هناك، سننزلق شيئاً فشيئاً في ما يعيشه الزوجان وطفلهما داخل الجدران التي تفصلهم عن أعين الغرباء. سيمسك العنف بأضلاعنا، لحظة بعد لحظة، على مدار 175 دقيقة لا تمر بسهولة، حتى بلوغ الفيلم الخاتمة الموجعة القادرة على سحق اكثر القلوب قسوة.
يمر أكثر من نصف ساعة قبل ان تصلنا اولى اشارات العنف داخل البيت الواحد. في احد المشاهد، ينهال الرجل على زوجته بالضرب عندما لا يجدها الى جانبه بعد استيقاظه ليلاً. للدخول في قلب تلك المعاناة، علينا ان نمر عبر صيغة حكائية مقسمة عشرات الفصول، علماً ان معظم الفصول لا يتعدى لقطة عابرة لطير يحلّق او مجرد تفصيل لا يزيد من المعنى ولا ينقصه. خطة المخرج انزالنا في الجحيم الباردة بخطوات بطيئة واكيدة، كي لا يكون الخروج من الجحيم سهلاً. في النهاية، تصبح حالة الشخصيات حالتنا. نفهم المؤامرة الجمالية التي يحوكها ضدنا غرونينغ، لكن تقنية الفواصل ولا سيما الدخول اليها والخروج منها في كل مرة تستهلك ربع الفيلم، والأسوأ انها تكبح الانفعال وتجعل الايقاع التصاعدي يهبط. لكن، ما العمل في ظل عدم وجود وحدة سردية يتكئ عليها المخرج؟
ليس هذا الفيلم الوحيد عن العنف الاسري في البندقية، هناك ايضاً الشريط الذي انجزته مصصمة الأزياء الفرنسية التي "تحبّ السينما" أنييس ب. وعنوانه "اسمي هممم..." (قسم "أوريزونتي"). شريط مطعّم بالفيديو آرت، ذو معالجة بصرية مثيرة، يصوّر الرحلة التي تقوم بها الصبية سيلين (لو ــ ليلى ديميرلياك) مع سائق شاحنة بريطاني (دوغلاس غوردون) يعبر فرنسا، وتلتقيه مصادفة خلال عطلتها المدرسية على الشاطئ. هذا فيلم طريق ستتعرف فيه سيلين إلى معنى ان تكون خارج الحضن العائلي (الأكثر اماناً على ما يبدو)، ذلك ان ثمة سرّاً لا تستطيع البوح به (تحرّش والدها بها) يأكلها من الداخل. الفيلم استطاع ان يثير الانفعال، وهو الأول لسيدة شهيرة تبلغ الثانية والسبعين.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم