الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الفلسفة والصداقة أو أزمة اليونيفرسال

المصدر: "النهار"
بقلم الدكتور موسى وهبة
الفلسفة والصداقة أو أزمة اليونيفرسال
الفلسفة والصداقة أو أزمة اليونيفرسال
A+ A-

1- أركان الصداقة 

• قصديًّا، أي من المفترض أن يكون، الفلاسفة أصدقاء صوفيا، ومن ثمَّ أصدقاء في ما بينهم. أفرادًا عاشقين يتنافسون لنيل الخطوة في عينيّ صوفيا. العشق يؤسس للأطيقا، وهذه تعيّن أنواع السلوك. وصوفيا ليست سعدى بنت الزناتي خليفة ملك تونس: فرسان بني هلال يتنافسون للحظوة بها، لا لنيل الحظوة في عينيها.

• أداة التنافس ممارسة القول لا المقارعة بالسيف. ونفاذ القول الإقناع أو إفحام الآخر، أيّ آخر قائمًا كان أم مفترضًا، بالحجة.

• إمكان الإفحام يستند الى شروط يونيفرسالية العقل السليم ومستنداته (سقراط والعبد والغرباء، ديكارت وأعدل الأشياء قسمة بين الناس أي بين أفراد متساوين في القدرة على تمييز الصواب من الخطأ)، ويصدق على نحو كليّ وملزم.

• الفرد لا الجماعة، القول لا السيف، اليونيفرسال لا الخصوصوية، تلك هي أعمدة الفيلوصوفيا الثلاثة: ضمير جمع المتكلّم، الـ "أنا"، يعني، في القول الفلسفي، البشرية جمعاء لا العرب ولا العجم وحسب. وتعدّد اللوغُس لا يعيق يونيفرساليته لأنَّ اشتغاله بالأفاهيم لا بالصور البلاغيّة قَمِينٌ بجعله قابلا للترجمة من دون تخصيص: يصعب ترجمة " خرساء الأساور" وأداء المعنى من دون شروحات طويلة؛ وصحيح أنَّ "ماهيّة" يفرق عن "оѵσια" (أوسيه) وأن ثمّة فروقًا بين اللغات، إلا أنها فروقٌ مُغْنِية وقائمة في اللغة الواحدة نفسها.


• القول الفلسفي ينشأ في المدينة أو هو يُنشىء بالأحرى مدينةً، ويبذل علانيةً بين أصدقاء أحرار ومتساوين، جماعة إنسانيّة تنشىء مدينة أمثلية، تنشىء عالمًا يبحث عن حقيقته بحثًا منزّهًا عن الغرض. والمدينة غير الريف: الانتساب إليها يحصل بالشخص لا بالعائلة؛ وأحياء المدينة تتوزّع مهنيًّا: سوق الحدّادين، ساحة الشهداء مثالا، أو تتجرّد الى أرقام: دوائر باريس العشرين مثالا؛ في مقابل حارة النصارى أو حيّ العيتاني مثالا مضادًّا. الأغورا، الساحة العامّة تلخِّص المدينة.

هذا قصدِيًّا، أي بحسب معيش المشتغل في الفلسفة. لكنَّ الموقف اليومي في العام الواقعي يستند الى الذوكسا والحميّة. وما إن يغادر القصديّ حتى تستحوذ على الاهتمام "واقعة" أنّ خاصيّة الانسان، على ما سيقول هيدغر ومن بعده سارتر، هي أن – يكون - في -العالم: In-der-Velt-sein (الفِعلَمِيَّة).

2- مربط الحميّة

• واقعيّا، الفيلوصوفيا ظهرت في معارضة الذوكسا. فالفلسفة ليست رأيًا ولا تدبيرًا للشؤون اليومية. وصديق الذوكسا يدعى الفَيْلذوك. والفلاذكة لا تجمعهم الصداقة ولا البحث المنزّه عن الغرض، بل تحرّكهم الحميّة كلّا في "قضية" تخصّه.

• مربط الرأي والاعتقادِ المخيّلةُ والحافظة، القوّةُ الغضبيّة بحسب أفلاطون، لا العقل. ووسيلةُ الرأي، في جانبه السلمي، الخطابةُ (البلاغة). وغايتُه إذعانُ الخصم: يعتمد القصص والصور، لا الحجّة والبرهان (أرسطو). ويهدف الى التغلّب أو المنفعة، فيعبّر لا عن البشريّة جمعاء، بل عن القبيلة أو الطائفة أو الأمّة.

• الفَيْلذوك شاعر قبيلة أو قائد أمة. عالمه ليس واحدًا بل منقسم بين سيّد وعبد، مؤمن وكافر، مُنير ومُظلِم. ديناميّته توسّعيّة ( حربيّة في الغالب: تنويرٌ بالاستعمار، حريّةٌ بالحرب، إيمانٌ بالجهاد).


3- جدل الصداقة والحميّة

• الفَلْذكةُ مرافقة للجماعات البشرية منذ نشأتها المعروفة ولمّا تزل متّصلة بتدبير شؤون الحيّ والحفاظ على البقاء أو النزوع الى الغلبة (نيتشه).

       أما الفلسفة فطارئة، فقد لا تظهر البتّة عند جماعات بشرية كثيرة. غائيّاتها لا متناهية (هوسرل). يرافقها، كلازمة، العلم الباحث عن قوانين كليّة وثابتة، ويذهب بعضهم الى حسبان أنّه ينشأ عنها بالضرورة.

      وهنا يقتضي التمييز بين أمرين: بين الفلسفة بما هي كذلك، وبين مستعمل الفلسفة أو من يتوخى منها فائدةً. ومثل هذا الفرق كمثل الفرق بين الرياضيات وما تصلح له الرياضيات. إذ ليس في ذهن المتفلسف أيُّ دور للفلسفة سوى التفلسف، حين تكتب فلسفة لا همّ لك ولا انهمام سوى إخراج هذه الفلسفة. لا جدوى، من الفلسفة إلا التفلسف. لا جدوى لهذا العمل إلا من خارجه. حيث يهتم الرياضي بالخارج يتوقف بينما يأتي المجتمع ويستعمل الرياضيات للحرب والتموين والاقتصاد. لذلك نقول للمتفلسفين: اصرفوا النظر عن دور الفلسفة في كذا. لا دور للفلسفة إلا خدمة الفلسفة نفسها، أما الآخرون الذين يرون أن الفلسفة قد تكون ضرورية. فاهتمامهم يخرج من الفلسفة ليقع في باب النهضة والذين يفكرون في الأمة وفي.. عدم التمييز هذا هو الذي يربكنا، وما يربكنا أكثر هو أن معظم المشتغلين بالفلسفة، يلعبون الدوريْن، وذلك غير ممكن، الفيلسوف لا يهتم بالفلسفة إلا من حيث هي فكرة، وليس من حيث انطباقها على واقع.

• الفلسفة ظلّت إذًا أمثَلِية، لم تصبح واقعًا. ومنذ البداية أدلى جزء واحد من المدينة (الأحرار الذكور الراشدون) بدلوه فيها، وظلّت محصورة في أماكن بعينها ولغات قليلة وفئات. كنط: الفلسفة ليست شعبيّة ولا يمكن أن تكون. وهذا لا ينفي يونيفرساليتها، هوسرل: الفلاسفة موظّفو الإنسانيّة.

• تاريخيًّا، جرى استعمال الفلسفة من خارج. وكان لا بدّ من تسوية بين الريف، بمعنى التجمّع البشري العصبي، والمدينة. ومنها بخاصّة تسوية القرون الوسطى لصالح الحميّة، وابن رشد مثالًا.

• وتسوية أخرى جرت بدعوى اليونيفرسال، إنما لصالح الغلبة: وتاريخ الفتوح والاستعمار بدعوى التنوير والهداية معروف: طالما كان اليونيفرسال يفرض نفسه على العقول كان لا بدّ من رفع رايته مظلّة للفلذكة والحميّة.

4- أزمة اليونيفرسال

• حين لا يعود بالحميّة حاجة الى المظلّة، حين تُرفع من دون خجل مصلحةُ الأمّة العارية، تكون أزمة اليونيفرسال قد بلغت شأوها، وصار من اللازم أن يُفكر بطريقة أخرى.

• سبق أن قيل إن أزمة اليونيفرسال تبدأ باستقلال علوم الطبيعة والرياضة، ومحاولة تقليدها أو التعالي عليها.

     وسبق أن شُخِّصت الأزمة بوصفها تعبيرًا عن حال انفصال العلوم عن مجال إمكانها الفلسفي، حيث بدا تطوّر العلوم مستقلًّا وحرّا، قابلا للتعميم من دون إرثه الفلسفيّ العامّ، وفريسة سهلة إذًا للاستعمال التقاني المتفلّت من أي قيد آطيقي.

• إلا أن ما يهمّني هنا هو الانتباه إلى الضيق بيونيفرسال كنط المتمثّل في إعلانه مرجعية العقل محكمة عليا للبتّ في شؤون النظر والعمل والتشريع والاعتقاد معًا.

• لم يكن بوسع هيغل أن يرفض محكمة العقل، إلّا أنه يُخضع اليونيفرسال لتطوّر التاريخ ويؤجل غلبيته الى النهاية، ويحسب الحرب وسيلة للتطّور. أما ماركس فيؤجل حلول اليونيفرسال إلى نهاية التاريخ.

• نيتشه يرفض ادّعاء اليونيفرسال ويعارض أخلاق الخدم بأخلاق السادة. هيدغر يتابع نيتشه، مميّزا "العاميّ" الغافل من "الخاصّي" الأصيل. ورافضًا هيمنة العقلانية الحسَّابة والأنسية بدعوى الإصغاء الى نداء الكون المتوفّر للمُصْطفين وحسب.

• وتحسب الوضعية ومدارس التحليل أنها تخطّت أزمة اليونيفرسال بإعلان التعايش بين اليونيفرسال العلمي وتعدّد الذوكسا الاعتقادية. ويلتقي رورتي وهابرماس في نعي الميتافيزيقا ويحاولان إقامة اليونيفرسال على التعاطف الأخلاقي أو على أطيقا الحوار.

• لكن القائم ههنا هو العولمة: مدينة واحدة بالشرطة والعملة والسوق، توحّد بيولوجي أي توحدّ من تحت، وتعدّد من فوق: أحياء كثيرة تعيش كلّ منها حميّتها الخاصّة: مع انتكاس الميتافيزيقا واحتدام أزمة اليونيفرسال يصبح المجال حرّا لانتعاش الأصوليّات. والحميّة الى العرش من جديد.




5- تحدّيات التعدّد

• والسؤال المتبقي: كيف يستقيم التعدد فعلًا وكينونة، خارج مرجعية الحمية؟ أيُّ عقلٍ يتّسع لكثرة حقائقه؟ أو كيف يمكن تسويغ التعدّد في أفقٍ يونيفرسال؟

كيف يكون اثنان على حقّ عندما يزعمان في الوقت نفسه مزاعم متضاربة في صدد الشيء نفسه؟

كيف تكثر الحقيقة ولا تنكسر؟

• إذا لم نكن نسبح في الوهم جملة أو ننعزل في شرنقة، وإذا كان للكلام معنى يتواصل يجب تدبّر مفهوم للحقيقة مصاقب.

      اذا كانت الحقيقة وجهة نظر متسقة مع ذاتها، واذا كان شيء النظر أو "موضوع" القول يتعين بالوجهة نفسها، فهل معنى ذلك أن لا خروج من الذاتيّة البتة؟ أن لا ذاتيّة عامّة هناك؟

      وحين نفرض أن الحقيقة احتمال واحد من احتمالات لا تحصى. احتمال ناجح. المسألة تزداد صعوبة، والصعوبة لا تنجم عن الافتقار الى الموضوعية واليونيفرسالية، بل عن وفرة الموضوعيات وكثرة اليونيفرساليات.

      وفي كلام أبسط، إذا سلّمنا أن الحقيقة احتمال واحد من احتمالات لا تحصى- وهذا لا يعني أن الحقائق نفسها لا تحصى، وإذا سلّمنا أن لا حقيقة إلا صادقة- وهذا يعني أنها مصدقة وقابلة للتناقل بوصفها كذلك، وإذا سلّمنا أن الحقيقة الصادقة هي مطلقة في لحظة صدقها وتصديقها – وإلّا غدت مجرد احتمال وظنّ وترجيح – إذا سلّمنا بذلك كله، يبقى لنا أن نفهم كيف تكون الحقيقة احتمالًا وتكون مطلقة في الزعم. ثم كيف تكون مجرّد وجهة نظر، أي حقيقة فردية ومفردة، وتكون قابلة للتداول والتواصل؟ ولا يسعنا الاكتفاء بما اكتفى به شيخ الفيزياء الشهير عندما قال: " من غير المفهوم أن يكون العالم مفهومًا". لقد كان له من فيزيائه ما يغنيه عن الإصرار على الفهم، أما نحن فلا حيلة لنا سوى أن نحاول، سوى أن نتدبر الأمر كي يظل الكلام قادرًا على الجري والتناسل.

      وحيلتنا الباقية هي أن نفرض الفروض الواقية عسى أن نتعلَّق بواحد منها فينشلنا من الغرق في اللامعقول. فلنفرض إذن أن العقل البشريَّ واحد، بمنازع كثيرة أو بملكات متساوية، فما يصح لديه في واحد على وجه الصدق والاتساع يصح لديه في آخر وفي الكل جميعًا. شرط أن لا ننسى أن مدار الأمر فرض من الفروض وضرب من الآطيقا.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم