السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

ما بالكم لا تحتفلون بإقرار السلسلة؟!

المصدر: "النهار"
غسان صليبي (خبير وباحث اجتماعي)
ما بالكم لا تحتفلون بإقرار السلسلة؟!
ما بالكم لا تحتفلون بإقرار السلسلة؟!
A+ A-

(تحية الى حنا غريب ونعمة محفوض ومحمود حيدر) 

لم أفهم برودة النقابيين المستقلين الذين قادوا معركة السلسلة لسنوات أو شاركوا فيها، حيال استقبال إقرار سلسلة الرتب والرواتب. ألأن ما تحقق دون التوقعات؟ ألأن السلسلة ارفقت بضرائب مضرّة بالطبقة الوسطى والفقيرة؟ ألأن السلسلة أقرت بعدما وضع أحزاب السلطة اليد على هيئة التنسيق النقابية ؟

دعونا نقارن الوضع بين ما قبل نضال هيئة التنسيق النقابية وما بعده:

أولاً: قبل مرحلة النضال كانت السلطة لا تريد إقرار السلسلة. بعد النضال وافقت السلطة على إقرار السلسلة. ما جرى إقراره لا يلبي المطالب كافة والإنجازات تتفاوت بين قطاع وآخر. لكن هذا ما يحصل في معظم التحركات النقابية، وما تحقق جيد في ظل الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة والمناخ السياسي غير الديموقراطي، والهيمنة السياسية شبه الكاملة على الحركة النقابية.

ثانيًا: قبل مرحلة النضال كان المشهد النقابي محبطًا والأمل بالحركة النقابية شبه معدوم في ظل اتحاد عمالي متخاذل وتابع لقوى السلطة. بعد نضال هيئة التنسيق أصبح الوعي النقابي والشعبي أكثر اقتناعًا بإمكان النضال وفاعليته. وقد علمتنا تجربة هيئة التنسيق السابقة أن هذه الفاعلية ممكنة إذا توفرت الشروط الآتية: استخدام الضغط الى جانب التفاوض، ديموقراطية المنظمات النقابية وحيوية جمعياتها العمومية، استقلالية القيادة النقابية، شجاعتها وإخلاصها.

ثالثًا: قبل مرحلة النضال كانت مسألة الضرائب وايرادات الدولة خارج إطار اهتمامات الرأي العام. لكن بعدما طرحت هيئة التنسيق موقفها في شأن البدائل الضريبية وقامت بزيارات ميدانية الى بعض مراكز الفساد والهدر للمالية العامة، اصبحت قضية الضرائب شأنًا عامًا، ونظّم المجتمع المدني بعد ذلك حراكًا حول الموضوع. أما بالنسبة للضرائب التي أقرت بالتزامن مع إقرار السلسلة، فتتحمّل مسؤوليتها الدولة التي تبحث عن إيرادات للموازنة العامة وليس فقط للسلسلة، على عكس ما حاول المسؤولون ايهام الرأي العام به. وإذا كان من تأثير لتحرك هيئة التنسيق النقابية على ذلك، فهو في إجبار السلطة على فرض ضرائب ولو غير كافية على المصارف والشركات المالية، كما على المعاملات العقارية والأملاك البحرية. وهذا في ذاته تطور ايجابي في اتجاه سياسة ضريبية أكثر عدالة.

رابعًا: قبل مرحلة النضال كان الوعي السياسي يميز بين أحزاب 8 و14 آذار على مستوى السياسات الاقتصادية – الاجتماعية. إصطدام هيئة التنسيق بمواقف حكومة ميقاتي الأقرب الى 8 آذار، وبعدها بمواقف حكومة سلام الجامعة للطرفين، ساهم في تحرير الوعي السياسي من وهم هذه الثنائية، وأظهر وحدة الطبقة السياسية حيال السياسات الاقتصادية- الاجتماعية. مما سمح لاحقًا بتبلور شعار "كلكن يعني كلكن" وتعميمه على القضايا الاجتماعية المطروحة من النفايات وغيرها.

خامسًا: لكن هؤلاء "كلكن يعني كلكن" تبنّوا بدورهم الشعار، وانقضّوا معًا على روابط هيئة التنسيق ونقاباتها، واسقطوا متحدين القيادات النقابية المستقلة. السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا قررت السلطة إقرار السلسلة في وقت ضعفت فيه قوة الضغط النقابية واصبحت قيادات هيئة التنسيق تابعة لها؟ البعض يقول إن الدوافع انتخابية ونحن على أبواب الانتخابات النيابية. أو أن المسألة لم تعد تتحمل المماطلة، وأن العهد والحكومة يريدان إقرار الموازنة العامة. قد يكون هذا صحيحًا، لكن أعتقد أن الجواب يكمن أكثر في طبيعة الاقتصاد السياسي للطبقة الحاكمة. فهذه الطبقة لا تمانع في التصرّف بالمالية العامة بعشوائية، اذا كان الغرض هو الانفاق على "رعاياها" من مختلف المذاهب والطوائف. لكن على هذه الانفاق ان يأخذ طابع "المنحة" أو "المنة" وليس طابع التنازل تحت الضغط. وهذا ما سمحت به سيطرتها على القيادات النقابية في هيئة التنسيق وتوقف هذه الهيئة عن أي تحرّك ضاغط. كأني بلسان حال هذه الطبقة السياسية يقول للنقابيين: "عودوا الى مرتبتكم التابعة لنا وخذوا رتبًا ورواتب". المهم أن تبقى قاعدة الصراع هي المحاصصة المذهبية والا تأخذ طابع "المحاصصة الطبقية". طالما الرعايا رعايا، فلا مانع من الإغداق عليهم ما تيسر من الانفاق العام.

المسألة تنطبق ايضًا على علاقة الطبقة السياسية بالرأسمال. فهي تطوّعه أحيانًا وتفرض عليه بعض التنازلات الضرائبية، على رغم تقاطع مصالحها مع مصالحه. ذلك كله في خدمة هيمنتها السياسية التي تقوم على مبدأ "خضوع الرعايا" بقدر ما تقوم على مبدأ "تقاسم الريع". القضية، كل القضية، عندها، كيف توفق بين ادارة الريع والرعايا معًا.

في هذا المعنى يقترب النظام الرأسمالي اللبناني أكثر وفاكثر من "الرأسمالية الزبائنية" التي تنتشر في البلدان العربية ذات الأنظمة السياسية المستبدة، والتي يخضع فيها الرأسمال للسلطة السياسية، كما في مصر وسوريا والجزائر مثلاً. هنا يحضرني مشهد الرئيس السابق لجمعية المصارف فرنسوا باسيل، عندما وقف معتذراً للرئيس نبيه بري، بعدما كاد هذا الأخير أن يحرّك القضاء في وجهه لأنه تجرّأ وانتقد استهتار الطبقة السياسية.

المشهد العام اليوم تلخصه "الجغرافيا السياسية" التي تظهّرت يوم إقرار السلسلة في المجلس النيابي:

النواب يقرّرون في المجلس، هيئة التنسيق الحالية تنتظر في مكاتبها بصمت قرار النواب، والنقابيون المستقلون ومعهم القيادة السابقة لهيئة التنسيق، يعتصمون قبالة البرلمان ويتابعون الضغط في الشارع.

أقول للنقابيين المستقلين:

طوّروا معاني هذا المشهد،

احتفلوا بما انجزتموه واجعلوا منه حافزًا لنضالاتكم المستقبلية. وإذا كان لديكم مآخذ على ما جرى إقراره ولا سيما من ضرائب على الناس، فلا تستعجلوا الاحتجاج اليوم كأنكم خارجون من معركة خاسرة. بل خذوا "بعض النفس"، احتفلوا ومن ثم انطلقوا من جديد.

أعيدوا النظر في أطركم التنظيمية واستراتجياتكم بعدما هيمنت احزاب السلطة على هيئة التنسيق النقابية.

الانجازات إنجازاتكم. فكّروا جيدًا كيف تنظّمون "التيار النقابي المستقل" في التعليم الرسمي والخاص الذي حصل في الانتخابات الاخيرة على أكثر من 40% من الأصوات الحرة.

هل تتابعون التحرّك كمعارضة داخل الأطر النقابية، أم تتحولون الى نقابات مستقلة؟ الى متى تصلح الأولى ومتى يحين دور الثانية؟

في جميع الأحوال نسِّقوا في ما بينكم، ووسِّعوا أفق التنسيق مع باقي القطاعات التي تشهد حراكًا نقابيًا مستقلاً.

لكن قبل أن تفعلوا ذلك كلّه، احتفلوا، فأنتم تستحقّون!



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم