الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"دنكرك" لكريستوفر نولان: الحرب تُعاش لا تُحكى!

المصدر: "النهار"
"دنكرك" لكريستوفر نولان: الحرب تُعاش لا تُحكى!
"دنكرك" لكريستوفر نولان: الحرب تُعاش لا تُحكى!
A+ A-

منذ الأربعاء الماضي، بدأ "دنكرك"، الفيلم الطويل العاشر لكريستوفر نولان، باحتلال شاشات العالم في أوسع انتشار لشريط مصوَّر بـ70 ملم منذ ما يقارب الربع قرن. العمل مطروح بنسخ أخرى أيضاً، من الـ35 الرائج إلى الـ"أيماكس" النادر، ويتوقف توزيعها على الشاشات المتوافرة في كلّ بلد. فنولان من الذين لا يزالون يتمسكّون بمقاربة معينة عن #السينما قائمة على فكرة “الصفاء العرقي”، ويتحقق هذا من خلال اصراره على التصوير بالشريط السينمائي التقليدي الذي نشأ عليه هذا الفنّ مند اختراعه، على الرغم من انحصاره لمصلحة الديجيتال في السنوات الأخيرة.  

مَن شاهد أفلامه السابقة ومَن يشاهد اليوم "دنكرك"، يعي كم ان المادة أساسية عند نولان. فهو سينمائي مادي في المقام الأول، ينطلق من الملموس والمحسوس لبلوغ شيء غير مرئي يستحيل النظر فيه ووصف ماهيته بدقة. في جديده، يوظف كلّ ما تجمّع لديه من طاقة وموهبة وفلسفة وثقة عالية في الذات، منذ انطلاقته في التسعينات، لإيجاد مكان لنا (كدت أكتب ملاذاً) تحت سماء يحلّق فيها الموت طوال نحو 100 دقيقة، ذهاباً واياباً. نولان سينمائي مادي بمعنى ان ما يقدّمه صنو حقيقة ما، من دون ان يشغله بالضرورة همّ الواقعية. القماشة البصرية التي طمح اليها في “دنكرك” لا يمكن الحصول عليها بالصورة ذات الدقة العالية، انما بوسيط ملموس هو الشريط. هذا بالاضافة إلى ان نولان أراد تصوير "دنكرك" في المكان الفعلي حيث جرت الأحداث. لم يرغب في اللجوء إلى الـ"سي جي آي"، ما مدّ الفيلم بدسامة واحساس فقدناهما بشكل كبير في الكثير من الأفلام “الملعوبة” رقمياً. لذلك، فالنتيجة هي أقرب إلى سيرغي بوندارتشوك منها إلى مايكل باي. نلتقط المكان بحواسنا، نشعر بسطوته علينا، كما بأجساد الممثلين والخوف الذي في عيونهم. وأخيراً نجد أنفسنا في النيران التي ستلتهم أطرافهم. ندرك لقطة بعد لقطة الخطر المحدق بهم. لا مكان للزيف عند نولان. كلّ ما تراه على الشاشة، حصل فعلاً في الحقيقة، كما في سينما قديم الزمان.

مخرج “استهلال” (2010) أحدث نقلة مهمة في مجال الـ"بلوكباستر" في السنوات الأخيرة. لم يجدّد في الجانرات التي اشتغل عليها، بقدر ما رفع من سقف الـ"بلوكباستر" الأميركي والأفلام التي تعتمد على الاستعراض المشهدي العريض. أضاف عليها شيئاً من الباروكية المفتتنة بحس أوبرالي، مع جرعة ميتافيزيقية. فهو ليس مؤلفاً بالمعنى المتعارف عليه، ولا حِرفياً يعمل تحت سيطرة منتج. أجده يقف في منتصف الطريق بين المؤلف والحِرفي، محاولاً رسم هواجسه وطرح انشغالاته في مشروع سينمائي تتجاوز موازنته المئة وخمسين مليون دولار.  

"دنكرك" فيلم مشهدي بامتياز يقوم على دوران لا يتوقف. نضع رجلنا في مسرح الحوادث بلا أي مقدّمات. ثلاثة أسطر لا غير تشرح لنا السياق التاريخي. هذا كلّ ما نحتاجه للتماهي مع خطاب صالح لكلّ زمان ومكان: في الحروب، الموت هو القاعدة، وليست الحياة سوى استثناء، معجزة، مصادفة. هذا ما يهمسه لنا الفيلم المُقلّ كلاماً، الشبه صامت. فهو لا يحتاج إلى فرمانات طويلة لقول ما لا يُقال. الحرب تُعاش لحظة بلحظة، لا تُشرح ولا تُحكى. بناءً على هذا، أراد نولان فيلماً عابراً للرواية الحربية الكلاسيكية والسرد المنطقي المتسلسل الذي يعقلن العبثية ويشرحها. مشروع نولان هنا هو محاولة لتأليف ترتيلة موت بصرية. يرمينا، حرفياً، في العبث، ولا من ينتشلنا منه. قد نتواطأ معه أو لا، لا حلول وسطى. لذلك، فـ”دنكرك” أكثر أفلامه تجريباً.

في طبيعة الحال، الفيلم مشبَّع بالموسيقى التصويرية (هانز زيمر) وبالإبهار البصري الذي يحقق توازناً بين اللقطات القريبة على الوجوه واللقطات الجماعية التي تساهم في خربطة العلاقة بين ما نراه وما نشعر به. من هذا التفاوت، يولد "دنكرك". كأن نولان أراد تنفيذ الحلم الذي كان عند ستانلي كوبريك - السينمائي الذي يتم تشبيهه به منذ فترة: عمل لا ينطوي سوى على لحظات ذروة، يرتقي إلى مرتبة السمفونية السينمائية التي تحاول وضع المشاهد في طوفان اللحظة. لأجل ذلك، وجد نولان القصّة الاتية: فصل شبه منسي من الحرب العالمية الثانية (أيار 1940). لحظة تاريخية يعتبرها المؤرخون مصيرية لأوروبا، وخصوصاً لبريطانيا التي كانت بعثت أكثر من 200 ألف جندي بريطاني بهدف التصدي للنازية الزاحفة، والآن تريد استرجاع بعضهم على الأقل مهما كلّف الثمن. الا انهم وقوات الحلفاء (أي نحو 400 ألف عنصر) حُشروا على شاطئ كومونة دنكرك الصغيرة الواقعة في شمال فرنسا، بعيد المعركة الكارثية التي دارت فيها. أربعون كيلومتراً تفصل شاطئ دنكرك عن بريطانيا، الا ان المانش ليس بالعمق الذي يتيح له استقبال البواخر العملاقة والمدرعات الحربية التي وعد بها تشرتشل لنقل الجنود إلى برّ الأمان. ترى مَن سينقذهم وكيف؟ الجواب في كتب التاريخ أكثر منه في هذا الفيلم الذي، للمناسبة، أغفل بالكامل دور الفرنسيين وتضحياتهم في إنقاذ الجنود، مركّزاً فقط على معاناة الجنود البريطانيين الذين يبدو على وجوههم الخوف والذل والقلق والألم، وهم أشبه بالأحياء الأموات الخارجين من فيلم لروميرو.

الفيلم بأكلمه هو عن عملية سحب القوات من شاطئ دنكرك، التي تمت بعد تصاعد خوف تشرتشل من الألمان. من العدو النازي الذي يتربّص بهم لن نرى شيئاً قطّ. سنكتفي بالرصاص الذي ينهمر على رؤوسهم. نولان يختار تصوير ردّ الفعل على الوجوه التي تحدق في السماء، في كامل رعبها وفي أقصى استعدادها للموت. يختصر المخرج الحرب بمستواها الغريزي الأبسط: الرغبة في البقاء على قيد الحياة. من هذا المنطلق، نحن ازاء فيلم عن انتظار الموت فقط لا غير. لا بطولات فردية، بل احباط جماعي يحوّله الفيلم في ختامه انتصاراً، وهذا أجرأ ما في النصّ، بعيداً من أي اعتبار للخطاب السياسي المنقّح. فمجرد الهرب هو بالنسبة لنولان انتصار في ذاته، ومناكفة لحتمية الموت.  

هذه هي الحرب التي يصوّرها نولان من وجهة نظر اشكالية، ولكن لا تصل إلى أن تكون “سيلينية” (نسبة إلى لوي فردينان سيلين، مؤلف رواية “رحلة إلى أقاصي الليل” - 1932)، واضعاً ايانا في دوامة عنف تتجسّد عبر إيقاع شديد التوتر. لا يوجد في فيلمه أيٌّ من الأشياء التي صنعت مجد الأفلام الحربية، لا على مستوى الصيغة الدرامية ولا الأفكار الاخراجية: لا فلاشباك، لا توطيد علاقة مع شخصية معينة، لا قطع على مشهد حبيبة جندي تتسلم رسالة. "دنكرك" فيلم جاف، قاطع كالسيف، ماتيماتيكي، يدوس المشاعر الإنسانية، ليبلغ شيئاً ما في جوف الإنسان، فتتأجل الغصّة إلى ما بعد الخروج من الصالة (في حالتي على الأقل). السيناريو (وقّعه نولان بنفسه) من أعجب ما يكون: فعّال، منطوٍ على نفسه، مكتفٍ بحرية الابداع الإستثنائية التي يحظى بها صاحبه. فهو "يعانق" فكرة الصراع المسلّح من أقصاه إلى أقصاه، هنا قوته وضعفه في آن واحد. نولان يتجه إلى تجربة حسيّة أكثر منها ذهنية (وهذا الفرق الكبير بينه وبين كوبريك الذي ناقش أفكاراً فلسفية كبيرة طبعت القرن العشرين). يستثمر نولان امكانات هائلة لقول ما يُمكن اختصاره بسطر واحد، ذلك انه يوفّر لنا تجربة معيشة عبر الانخراط في احساس الزمن وجعله محسوساً لمَن لم يعشه.

يقارب "دنكرك" الحدث من ثلاث زوايا / لحظات، إحداها على مدى اسبوع، والثانية على مدى يوم، والثالثة على مدى ساعة. التداخل بين اللحظات الثلاث هو الذي يخلق ضخامة الفيلم على مستواه السردي. ثلاثة فضاءات زمنية تختلف طولاً ووزناً تسير في إتجاه واحد، ضمن تيليسكوباج رهيب يعيد الإعتبار إلى الكتابة الفيلمية. القارب (على متنه مارك رايلانس وابنه ورفيق الأخير) الذي يقطع المانش لمد يد العون للعسكر بعد الدعوة الرسمية التي أُطلقت للمساعدة، والطيّار (توم هاردي) الذي يحلّق في الأجواء فوق رؤوس العسكر لقصف الطائرات الألمانية، والقوات التي تنتظر اعجوبة (من بينهم طومي الذي نقتفي خطاه)، هذا كله يلتحم بأعجوبة لصنع عمل ملحمي يصوّر وحشية الحرب براً وجوّاً وبحراً. إنها ٣ لحظات/ شخصيات/ أبعاد رمزية لرواية الصمود. فنتساءل تكراراً: أين تبدأ الشجاعة وأين ينتهي الجبن؟  

مدير التصوير هويته فان هويتيما أتمّ لوحة، كاسراً بها التقاليد في سينما الحرب. كاميراه تضعنا في قلب الفوضى والرعب والخراب، وعلى صلة مباشرة مع مكونات المأساة. تسانده موسيقى هانز زيمر المتعنتة. كأن المؤلف الكبير منح حنجرة لكلّ جندي. نوتاته تراكم من الألم والآهات والتمزق الداخلي، تناطح أكبر قوة على الأرض. انه لحن الخلاص والتفلت من البهيمية.

(*) "دنكرك" - في الصالات اللبنانية بدءاً من الخميس ٢٧ الجاري.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم