السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

إبرهيم العريس: قارئ تراث الإنسانية

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
إبرهيم العريس: قارئ تراث الإنسانية
إبرهيم العريس: قارئ تراث الإنسانية
A+ A-

اختيارات من رحابة النصوص 

من سنواتٍ مديدة، اعتاد أن يقدِّم كُتَّابَ الإنسانية على مدار العصور، وينتقي من تراثهم الأدبي والسينمائي غُرَرًا وعيونًا. وها هي الدوائر تدور عليه اليوم، فإذا بقارئٍ نَكرةٍ يرسل إليه تحية، من بين المتابعين المجهولين، الذين تشدهم كتاباتُه المنتظمة، دون أن يقابلوه. وعلى المُتابع المواظب واجبُ التلويح إلى إبرهيم العريس (1946-...)، "القَرَّاء" اللبناني الفريد، الذي نَدَب نفسه لمطالعة ألف أثرٍ فني، بالمعنى الواسع الذي يشمل الكتبَ والأفلام والمسرحيات واللوحات. والنص هو الذي يهزُّ الثوابت ويدفع إلى السؤال، عكس الأثر الذي يرسخ القناعات، في تمييز دقيق صاغه رولان بارت (1915-1980) بين الأثر والنص.

وارتأى هذا المثقف اللبناني أن يصطفيَ من تراث الإنسانية جمعاء، عبر امتدادها الفكري الطويل، سلسلةً من ألفِ نصٍ لتقديمها، بشكل يوميٍّ، ضمن موسوعة المنابع الأدبية والفنية العالمية التي شيدت التجربة الجمالية الإنسانية وبنتها عبر الكلمات والألوان والأضواء. ولإنجاز صرحه المعلمي هذا، ها هو ذا من وراء مكتبه يَتَمطى في عُزلته، يجوب خلال آفاق الفن الرحيبة، ويختار منها ما يراهُ أجلى من غيره في التعبير عن عُصارة النفس البشرية، في صراعها ضد الزمن، إثباتًا لذاتها أمام هزات الميتافيزيقا، وعواصف السياسة في المجتمع.

ولعل أعسر الأسئلة التي تلح عليه، كما تحيِّرُ القارئ، هي التي تتعلق بطبيعة المعايير التي ينتقي حَسَبَها المؤلفين والفنانين لتقديمهم. ويتراءى الجواب بديهيا: لا يختار العريس إلا الأعمال التي توافقت حولها توقعات الجمهور، وحظيت منه بالقبول، بعد أن أجمع على قيمتها العالية النقادُ، وإن تجادلوا حول طبيعة تلك القيمة. كما أنَّ عامل ترجمة تلك الآثار وانتشارُها وارتفاع نسبة مقروؤيتها، على الصعيد المحلي أو العالمي، مما يؤهلها لاحتلال أعلى المراتب في بُستان المختارات.

وعلى هَدْي هذا المعيار الذي لا يخطئ، راح الناقد اللبناني يتخَّير للقارئ العربي أفضل ما جادت به قريحة الكُتاب وأهل الفنون على مرِّ القرون: إما ناثرًا الغبارَ عن أثرٍ، ظنناه قد ضاع في غياهب النسيان، فيعيد إليه شبابًا ونضارة، وإما مُذكِّرًا بجانب خفي من سيرة كاتب/رسام/سينمائي مشهور، فإذا به يضيء بواسطته تلك الجوانب المعلومة، وإما راضيًا عن كاتبٍ، كان في حياته منبوذًا، وبين أقرانه مقهورًا، فيبين قيمته الفنية، ويجليها للعيان، بعد أن أنكرها معاصروه.



عن مناهج التلقي ومسالكه

ويجري منهجه في تقديم للكتب والأعمال وَفق خطة واضحة وهيكل متدرج: فهو يبتدئ بعرض السياق الثقافي والاجتماعي وربما السياسي الذي نشأ فيه فكرُ الكاتب المقترح وبين أرجائه استوى، ثم يمر بعدها إلى استعراض مضمون نصِّه وأهم الأفكار الفريدة الواردة فيه، مع إجلاء أوجه طرافتها والجِدَّة، وربما يذكِّر بالانتقادات التي وجهت إليه إبانَ ظهوره، فقلَّلت من قيمة العمل وقتها أو بعده. وغالبًا ما يختتم مقاله باقتراح بعض المعلومات البيوغرافية التي تساعد على فهم حياة الكاتب، واسترجاع أبرز الأحداث التي طبعت مسيرته. وهي إضاءات دقيقة تظهر سعة اطلاع الرجل وامتداد ثقافته الشخصية، ذات طابع موسوعي لا يناقش.

وأما عناوينه التي يُوشِّح بها مقالاته فَشَهْدٌ مصفَّى: تركز موضوعاتِ الأثر المدروس، وتحث على قراءته، بعد أن تنير الإشكالية الأمّ التي تحكمه. وفي عناوينه بلاغة الإيجاز وثراء الإيحاء ونصاعة التركيز.

وهكذا يخرج القارئ العربي بفكرة موسعة عن أهم النصوص العالمية، وسياقاتها وتأثيراتها الإيديولوجية والفنية، فيما يشبه التأريخ الثقافي للمنتجات الأدبية والفكرية التي أنشأتها يد الإنسان على مرِّ القرون. ولعلَّ أفضل ما يُقرأ به هذا التوجه البديع في التأليف هو منظور جمالية التلقي التي طوَّرها الفيلسوف الألماني هانس روبرت ياوس (1921-1997) في كتابه عن "جمالية التقبل"، فكأن إبرهيم العريس، وهو ينتقي من الآثار العالمية عيونَها، قد صار هذا القارئَ-الجمعَ Archi-lecteur الذي يرسم حدود النص الشامل، ويستقطب كلَّ السمات الجمالية التي شدَّت، ولاتزال، جمهور القراء من كل عصر. ولا شكَّ أنَّ استعادة مقالاته، وهي تعد بالمئات، وتحليلها على ضوء منظور التلقي هذا، كفيلة بأن تضعنا أمام بنية الخصائص الجمالية التي شكَّلت التقبل في العصر الحديث، وفيها تركزت مظان الإبداع والطرافة، ينقلها منبعًا يرفد الثقافة العربية ويصل جمهور الضاد بها.

وُلد إبرهيم العريس في مدينة بيروت 1946 لوالديْن متضلعين في السينما إخراجًا وتمثيلاً، ومنها سافر إلى أوروبا فدرس الإخراج السينمائي في إيطاليا والسيناريو والنقد بإنجلترا، وهو ما أتاحَ له إتقان اللغات الأوروبية والاطلاع على أمهات المصادر فيها. إذ ساعده الأخذ بناصية الفرنسية والإنجليزية والإيطالية على ترجمة ما يقارب الأربعين كتابًا، تدور موضوعاتها حول السينما والفلسفة والاقتصاد والنقد والتاريخ. وألف بنفسه كتبًا من أشهرها "رحلة في السينما العربية"، و"مارتن سكورسيزي: سيرة سينمائية". كما اكتسب، منذ بداية السبعينات، خبرة العمل الصحفي، ولاسيما في قسم الثقافة والنقد الأدبي والسينمائي، وهي من أعسر أجناس الكتابة الصحفية لما تقتضيه من تتبع مستمر لتيارات الفكر وفهم تحولاتها ورصد آثارها، بالإضافة إلى كونه قد أصدر جريدتَي: "المسيرة" و"المقاصد".    

ويعسر عليك أن تربط صاحب موسوعة "تراث الإنسان" مثقفًا، بصورة المفكرين العرب الآخرين، أو أن تجد له بين معاصريه مرادفًا، فلا تتطابق أعماله مع الدور العضوي- الثوري الذي وضعه غَرامشي أو سارتر، ولا هو من فئة عبد الله العروي ومحمد أركون في تحليلاتهما للتراث، بل هو من قماشة نادرة، تتضمخ بالفن تجربةً إنسانيةً مطلقة من قيود التاريخ القومي المهتز، ومن تعقيدات الراهن العربي الشائكة. يجسد نموذجًا راقيًا من الاطلاع الموسوعي على تاريخ الفنون، فيجنح بك الخيال في آفاق الثقافة "الكونية"، ويعينك جمالها على فهم الواقع والتعالي عليه، كلَّ يومٍ، عبر زاويته الأنيقة. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم