الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

خطوة مطلوبة تحقّق وفراً للخزينة وتنهض بالتنمية المحليّة

المصدر: "النهار"
لمياء المبيّض بساط- رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي
خطوة مطلوبة تحقّق وفراً للخزينة وتنهض بالتنمية المحليّة
خطوة مطلوبة تحقّق وفراً للخزينة وتنهض بالتنمية المحليّة
A+ A-

شكّل المنتدى اللبنانيّ للشركات الصغيرة والمتوسطة الذي نظمته وزارة الاقتصاد والتجارة في 11 تموز 2017 برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، خطوة مشكورة تسهم في تسليط الضوء مجدداً على هذا القطاع وتعميق النقاش في السياسات العامّة التي تشجّع هذه المؤسسات على النموّ في ظلّ ظروف اقتصاديّة وماليّة ضاغطة. والمعلوم أن هذه المؤسسات تشكّل ما بين 93 و95 في المئة من إجمالي مؤسسات القطاع الخاص، وتُوظّف أكثر من نصف اليد العاملة وأن تطويرها وتشجيعها هو رافعة للاقتصاد اللبناني ولفرص العمل. 

من الأفكار التي طرحت في المنتدى، تفعيل مشاركة الشركات الصغيرة والمتوسطة في العقود الحكومية وفرص مشاركتها في صفقات اللوازم والخدمات والأشغال التي تطلقها الوزارات والمؤسسات العامّة والبلديّات. فالمتعارف عليه عالميّاً أن الدولة هي الشاري الأكبر وأن حجم مشترياتها يمثّل حصة مهمة من الناتج المحلي الإجمالي. ففي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مثلاً، يوازي الشراء الحكومي ما نسبته 13% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ثلث الإنفاق العام. وتصل حصته في الدول العربية من 15 إلى 20% من الناتج المحلي الإجمالي. أما في لبنان فتقدّر الدراسات هذه النسبة بنحو 4% (2014، دراسة أجراها معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي بعنوان "الشراء الحكومي في لبنان: الواقع والممارسات واستراتيجية وطنية لتعزيز القدرات").


كيف نستفيد من دروس التجربة العالمية؟

تُفيد التجربة العالمية أنّ دولاً عدة لجأت إلى تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على المشاركة في الصفقات العامة، كأداة استراتيجية للنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وكرافعة للابتكار والإبداع. ففي ظلّ الانكماش الاقتصادي وشحّ الموارد، تمّ اعتبار الشراء العام "منجم ذهب"، أولاً، لدفع هذه المؤسسات على تطوير قدراتها، وثانياً لتحقيق قيمة أفضل من إنفاق أموال المكلفين الضرائب من خلال تحفيز المنافسة. فاعتمدت دول مثل تشيلي والمكسيك وإيطاليا وأستراليا وإيرلندا وغيرها على الشراء العام كأداة استراتيجية لتعزيز المنافسة في السوق بهدف تحقيق الوفرة وتشجيع ممارسات أكثر شفافية في عمليات الشراءالعام، ما أسهم في الحدّ بشكل كبير من الفساد والتواطؤ واحتكار المجموعات الكبيرة. وقد أجرت هذه الدول تعديلات قانونيّة واعتمدت سياسات ناشطة لتشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على دخول سوق الشراء العام، بما في ذلك التدريب على آليات المشاركة والمساندة الفنيّة، واعتماد دفاتر شروط نموذجية، والإعلان دوريّاً جداول الشراء، وغيرها.

وترافقت هذه الإجراءات مع نظم إلكترونية موحّدة للصفقات العامّة، بالإضافة إلى بنوك مواصفات وقواعد معلومات للموردين. وبالفعل، أثمرت هذه الخطوات زيادة حصّة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من الصفقات العامة، وحققت الدول من جرّائها وفراً في الخزينة، وشجّعت التنمية المحلية، وأدخلت بسهولة أكبر المعايير البيئية والاجتماعية إلى الشراء العام. أما في المنطقة العربية، فوحدهما تونس والمغرب بادرتا إلى استخدام الأنظمة الإلكترونية للصفقات العامّة، وإلى تحديث أنظمتهما المحفّزة للقطاع الخاص المتوسط والصغير، وتلك التي تهدف إلى حماية البيئة من خلال الشراء المستدام أو الشراء الأخضر.

الواقع في لبنان

تُشير المعطيات، رغم صعوبة احتسابها بسبب انقطاع الموازنات منذ عام 2005، إلى أنّ العقود العامّة تشكّل نحو 13٪ من الموازنة العامة و 4٪ من الناتج المحلي الاجمالي على المستوى المركزي، وتقدّر هذه النسبة بنحو مليار و774 مليون دولار، بحسب مؤشرات البنك الدولي للبنان عام 2013. لكن هذه النسبة لا تستفيد منها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، حيث تتركز الأعمال في المؤسسات الكبيرة، بالإضافة إلى عدم وجود طلب كافٍ من الحكومة على شراء السلع المتطوّرة تكنولوجياً، التي تسهم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل كبير في تطويرها وإنتاجها وتسويقها.

من جهة أخرى، تظهر دراسات عدّة، آخرها مسح أجرته شبكة خبراء الشراء الحكومي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (2014)، أن هذه المؤسسات غير قادرة على ولوج فرص المشاركة بفاعلية في العقود الحكومية لأسباب مختلفة أهمّها: عدم قدرتها وجاهزيتها للمشاركة (88%)، تأخّر الجهة الشارية في الدفع (75%)، صعوبة الحصول على المعلومات، وشروط المشاركة وكذلك الصعوبة في تشكيل تكتّلات وتحضير عروض لها فرص حقيقيّة في النجاح (63%).


كيف نبادر؟

إدراكاً منها لأهميّة الموضوع عملت وزارة المالية، من خلال معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبالتعاون مع البنك الدولي وخبراء من التنمية الإدارية وإدارة المناقصات والمؤسسات اللبنانيّة المعنيّة، على وضع خمسة دفاتر شروط نموذجية ودليل وطني جرى تعميمها على الإدارات والمؤسسات العامة. كذلك طوّرت استراتيجية وطنية لتعزيز القدرات، ووفّرت التدريب العالي الجودة والشهادات التخصصية للعاملين في القطاع العام، بالإضافة إلى إنتاج معرفي من دراسات وأوراق سياسات عامّة وأدلّة أضاءت على الممارسات الجيّدة والتجارب العالميّة، وكلّها مبادرات تمّت بمشاركة الجهات المحلية والدولية المعنية بإصلاح الشراء العام في لبنان.

وبهدف مساعدة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الراغبة بالمشاركة في الصفقات العامة في لبنان أو في أي دولة حيث تعمل، نظّم المعهد بشراكة مع البنك الدولي والمعهد العالي للأعمال (ESA) ورشاً تدريبية بإدارة خبراء محليين ودوليين، أتاحت للعاملين فيها اكتساب المعارف القانونيّة والمهارات الفنيّة الضروريّة والتعرّف على موجبات المؤسسات الرابحة وعلاقتها بالجهة الشارية والأدوات العمليّة لمقاربة الموضوع بمهنية وثقة.

هذه الجهود يُمكن البناء عليها وتوسيع نطاقها وتعظيم آثارها إذا ترافقت مع رؤيا استراتيجيّة تستند إلى بنية قانونية حديثة (يجري مناقشة مشروع قانون المناقصات في البرلمان منذ وقت طويل) بما في ذلك دفاتر شروط نموذجيّة ملزمة، وقدرات وطنيّة عالية الكفاية في المؤسسات الحكومية ، والأهمّ في إدارة المناقصات التي يقع على عاتقها دور ريادي ناظم. حالياً المتخصصون بالشراء العام قلّة، ولا توصيف وظيفياً لهذه المهنة في الإدارات العامة. وإن وجدت، فلا ترتبط بالمستويات العليا للقرار، ما لا يتيح وضع خطط توريد سنويّة تترجم ماليّاً عند وضع موازنات الإدارات ولا عند تنفيذ الموازنة.

لقد أثبتت التجربة العالمية، لا سيّما البلدان الشبيهة ظروفها الاقتصادية بلبنان، أثر هذا التوجّه في تعزيز التنافسية وتحقيق فرص النموّ وكسر الاحتكار. ومن المهمّ الإشارة إلى الاستجابة الجيّدة للمؤسسات اللبنانية الصغيرة والمتوسطة التي رأت في هذه المعارف فرصة لتحسين جاهزيتها لدخول أسواق الشراء العام في لبنان والخارج بما يفتح أمامها فرص الابتكار والتنافسية.

المطلوب هو التعلّم من التجربة العالميّة وربط قطاع الشراء العام بالمنطق الاقتصادي التنموي، حتى يتمكّن من أن يصبح رافعة حقيقية للاقتصاد اللبناني ويسمح فعليّاً بتطوير آليات الطلب وآلية الردّ عليها من قبل السوق، فيشحذ المنافسة والابتكار ويقلّص فرص الفساد والتواطؤ واحتكار القلّة.






حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم