الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"بطيخة وحدة بس"

المصدر: "النهار"
رافي ميناس
"بطيخة وحدة بس"
"بطيخة وحدة بس"
A+ A-

في أيام الحرب التي أمضيتها مع أهلي والجيران، سمعت كلّ قصصهم، بل كنت الأرشيف لمسيرة حياتهم من مغامرات الشباب المليئة بالألوان حتى أيام الشعر الأبيض. 

في إحدى الليالي العنيفة، مع موسيقى فاغنر التي تُعزَف بالصواريخ والرصاص، وبأجواءٍ غير رومنطيقية مع الشموع والوجوه الذابلة، ننتظر رحمة الله أن تنزل مع الصباح لنقف من جديد في طوابير طويلة مليئة بالذلّ والطفولة المسلوخة والألم! نحمل أي شيء يستوعب في جوفه بضع قطراتٍ من الماء.

كُنتُ وجاري البدين ذو الرأس الأصلع الكبير نشرب المتّة، نصبّ الماء بتواتر وتناغم دقيق. زوجته وابنته الصغيرة كانتا تحوكان القصص والأخبار حول أهالي الحي مع أمي التي كانت تحوك لنا جوارب الصوف. كانت الأسياخ تهتدي إلى مسارها عبر ضوء الشمعة المرتجف... وبصيرة أمي. أبي يبقى جالساً في زاوية الغرفة، مراقباً، صامتاً، مصفّحاً بثيابه الصوفية علّها تقيه خناجر البرد، بعدما جرّدته العقود من اللحم وتركت فوق عظامه جلداً رقيقاً. جنيّات دخان السجائر تلتفّ حوله عبر دوائر لانهائية، بعد خروجها من أنفه المعقوف الكبير، فتمتزج مع بياض شعره وتشوّش علينا رؤيته!

في إحدى تلك الليالي، وضمن روتين انتظار الموت، كسر جارنا كل سياقات الحديث، صارخاً:

اسمعوا يا جماعة هالقصّة. صارت معي. من تلاتين سنة تقريباً.

وغرقت عيناه بضحكة خدّيه. صبّ الماء في كأسه. وضع رجله تحت فخذه فاهتزّت الأريكة العجوز. وساد صمتٌ سحري. بدأ بسرد قصّته.

في إحدى سهرات الشباب في قريتي الحبيبة، على سطح الدار حيث رائحة الصعتر البري تعمّدنا مع همسات الوادي. كنت مع ابن عمي وصديقي، نحتسي العرق ونقبّل التبغ. كان شرب العرق للكيف، ليس كأيامنا هذه نشربه ليستر بياضه سواد الحال. المهم يا جماعة الخير، بعد مضي الوقت فعل العرق فعلته بطاساتنا ـ أدمغتنا ـ الصغيرة!

قال ابن عمي: مشتهي على صحن فواكه من بستان المحروسة.

قفز صديقي قائلاً: فعلاً. أبوها عندو أرض، كأنها قطعة من الجنّة.

أي والله. قلنا جميعاً.

أفرغنا ما في كؤوسنا برشفة سريعة. وراحت خيالاتنا تسرح مع النجوم: شو رأيكن نروح وناكول بطيخة من أرض المحروسة؟

تبادلا نظرات الاستغراب، هممت بإقناعهما، لكن سرعان ما صارا عند باب السطح.

خلينا نمشي. ليش قاعد!

قطع دوائر الدخان بيده كالسيف، مسح العرق من صلعته، اطلق سعالاً مزلزلاً. ابتسم كالطفل. ثم اكمل.

ركضنا مثل الغزلان إلى بستان المحروسة ـ حبيبة ابن العم ـ عند وصولنا سحبنا أنفاسنا محاولين إنزال الدم الزاحف إلى رؤوسنا بفعل العرق والتبغ. تسللنا كالأفاعي نبحث عن البطيخ. بعد لحظات همس صديقي كأنه وجد كنزاً: هون البطيخ... هون البطيخ.

جلسنا أرضاً، سحب ابن عمي خنجره، بَقَرَ البطيخة كنعجة. للأسف بيضاء! نحر واحدة أخرى، أيضاً بيضاء. لم نكن نعلم أن البطيخ لم ينضج بعد. رمينا خمس أو ست بطيخات. ورمينا الشتائم واللعنات، بعضها أصابني!

فجأة جاء ضوء مصباح ومعه صوت يدوّي كالنهر: ولك مين هونيك؟ مين هونيك؟ وقِّف عندك...

اقترب الصوت أكثر، والصوت يهدر بقوة ورتابة، وقفت وبيدي البطيخة. صحت كالمجنون: اهربوووووو

لم نعلم أن أبا المحروسة يحمل بندقية، إلّا أن استقرت رصاصة في قلب القمر. كنا نضحك ونلعن أنفسنا والساعة. نزلنا في طريق الوادي. الرصاصات من خلفنا تصطاد النجوم، والرجل يصرخ: حرامية... حرامية... والله لألعن أبوكن يا أولاد الكلب.

قاطعته ابنته التي غلبها النعاس على رغم الحماسة والانفعال: والبطيخة! لساتها بأيدك؟

رمقها الجار بنظرة، أفصح من أيةِ صفعة وصرخ في وجهها: ولك رميتها من أول رصاصة.

أخذ شهيقاً واطلق الانفعال إلى كلماته مجدداً.

بقيت أقدامنا في أيدي الريح حتى قطعنا الجدول، ودخلنا بستاناً آخر. توقفنا بعدما تلاشت صرخات العم، ورصاصاته. جمعنا أنفاسنا وما بقي لنا من قوة، ثم زحف كل واحدٍ إلى بيته .

في الصباح اليوم التالي، اجتمعنا كعادتنا نحن الثلاثة عند جدتي ديبة تعدّ لنا وجبة الفطور الدسمة لننطلق بعدها نحو مغامرة جديدة. كانت طاقتنا خيالية، ليس كشباب هذه الأيام، أشبه بالمخلل المنتهي الصلاحية!

المهم يا جماعة. كانت جدّتي في ذاك الصباح متوترة للغاية. استفسرنا عن السبب فسردت لنا: والله يا ابنائي، البارحة دخل لصوصاً إلى قريتنا. لم يتركوا شيئاً إلا سرقوه.

بدأوا بحقل فلان، أفسدوا كل محصول البطيخ. مسكين، بطيخه لم ينضج بعد، هدروا تعبه أولاد الحرام.

سرقوا دجاجات أم غسان، نعجة سامح، بقالية أبو أمين أُفرِغ نصفها. حتى المختار... يا ويلي عالمختار.

كنّا نضحك بجنون مدهوشين مصعوقين من أخبار الجدّة. سألنا ما به المختار. وهنا كان العجب.

سُرق الختم. ختم المخترة. وسيجمع من كل بيت تلك الحسبة ليدفع الغرامة للبلدية، وإلا سينخرب بيته وبيوتنا. الغرامة كبيرة، والمسؤولية تقع على أهل القرية. ذلك الختم يمثّلنا يا أطفالي.

انفجرنا في قهقهة جنونية، الجدّة واقفة كالتمثال تراقب جنون أحفادها. هدأنا وروينا لها الحكاية "الأصلية". ضحكت: طلع المختار هو ابن الحرام. مو بس المختار. كل الضيعة. يعني أنتوا سرقتو بطيخة وحدة بس؟

أجبنا نحن الثلاثة: بطيخة وحدة بس...

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم