الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

من وحي "التوافق النقابي"

أنطوان الخوري طوق
من وحي "التوافق النقابي"
من وحي "التوافق النقابي"
A+ A-

"لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها... 

لبنانكم طوائف وأحزاب... ومرافئ وبريد وتجارة...

لبنانكم كذب يحتجب وراء نقاب من الذكاء المستعار

ورياء يختبئ في رداء من التقليد والتصنّع..."

(جبران خليل جبران)



التوافق لغةً، "توافق القوم في الأمر: إتفقوا وساعد بعضهم بعضاً وكانت آراؤهم فيه واحدة". لقد توافقت الأحزاب في لبنان وفجأة حُلّت المشكلات اللبنانية دفعة واحدة. إذ تمّ التوافق على حلّ مشكلات النازحين واللاجئين والمهجرين وعلى أسس قيام الدولة الحديثة وحماية الانتاج الوطني والثروات الطبيعية، كما توافقت الأحزاب الحاكمة على الحدّ من هجرة الشباب والأدمغة وعلى النهوض الاقتصادي وإصلاح الادارة واللامركزية الادارية وتحديث البنى التربوية وتأمين التعليم والسكن والطبابة والشيخوخة للجميع، كما حُلّت مشكلات العنف الأسري، وتمّ القضاء على البطالة وأعيدت قيمة الليرة الشرائية، وتمت مكافحة الغلاء والاحتكار والتلاعب بالأسعار، وتمّ ترسيم الحدود والقضاء على التهريب عبر المطارات والمرافئ والمعابر، وأضحى القضاء مستقلاً فلا تدخل في التشكيلات القضائية وعمل المحاكم وتمّ التوافق على سياسة لبنان الخارجية فلا إزدواجية وتمّ إستدعاء الكفاءات من الخارج كما وُضع الشخص المناسب في المكان المناسب وقُضي نهائياً على الهدر والفساد والرشوة، وتمت معالجة قضايا السير ولم يعد اللبناني مضطراً الى قضاء ساعات وهو يحاول الدخول الى بيروت أو الخروج منها، كما تمت حماية البيئة فلا مطامر ولا كسارات ولا مرامل ولا مقالع ولا دواخين تنفث سمومها في الاجواء ولا تقنين كهرباء ولا هيرويين ولا كوكايين ولا كابتاغون ولا سلاح ولا مسلحون.

كما تمّ القضاء على السلاح المتفلت وإطلاق الرصاص والموت المجاني في الشوارع وعلى شرفات المنازل. وعولجت مسألة السلاح غير الشرعي نهائياً، وعادت الدولة سيّدة على أرضها لا شريك لها في قرارات الحرب والسلم كما تمّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب بعد إنتظار طويل.

وطاب العيش في ربوع الأرز فالهدوء يعمّ لبنان. فلا ربط نزاع ولا تأجيل للمشكلات الملحة وللملفات المصيرية ولا إصطفافات حزبية.

فقد توافقت الأحزاب الحاكمة على إزاحة نعمة محفوض ويا ليتهم أزاحوه منذ زمن بعيد من أجل تداول السلطة وتجديد النخب لننعم بهذا الهدوء وهذا الانسجام بين المتصارعين لكان استراح وريّحنا معه.

فقد توافقت الأحزاب بمختلف إتجاهاتها وتناقضاتها على وضع اليد على نقابة المعلمين في المدارس الخاصة وهي الموقع النقابي المستقل الأخير لتجعل منه جرماً يدور في فلك السلطة بمساعدة إدارات المدارس وبمساعدة المعلمين أنفسهم (كالقط الذي يلحس المبرد) سواء الذين تغيبوا عن الاقتراع أو الذين اقترعوا بموجب تعميم قياداتهم الحزبية ومرجعياتهم الطائفية. لقد توافقوا وتساعدوا على تقاسم الحصص والمقاعد لتلحق بالحصص التي يتقاسمونها في شهر العسل التوافقي من دون أن يحسب أي حساب لأي شريك خارج الاصطفاف الحزبي وكأنّ الحزبي لا يمكنه التعامل أو التعاون إلّا مع حزبي آخر يشبهه كأنّه لا دور للمجتمع المدني في المشاركة في صنع القرارات التربوية، وكأنّ المطلوب إلتحاق جميع المعلمين بأحزاب طوائفهم وإلا البقاء خارجاً وشيطنة الخوارج منهم مع أنّ الانتماء للاحزاب ليس تهمة أو إنتقاصاً من قيمة ودور أحد، فالدول المتقدمة تعتمد في حياتها السياسية على الاحزاب ولكن أحزابها تمثل تنوّع مختلف شرائحها.

لقد إتفقوا وساعد بعضهم بعضاً وكانت آراؤهم في الأمر واحدة وفق ما إصطلح عليه لغةً في معنى التوافق (هل القصة حرزانة الى هذه الدرجة؟)

لقد تمت إزاحة نعمة محفوض لأنّه مزعج ومشاكس ونبرته عالية مما يعكر صفو الهدوء في الربوع اللبنانية الجميلة والدنيا صيف والمهرجانات تعمّ لبنان ودخان المفرقعات يزكم الأنوف. إذاً فليصمت المعترضون وليمتنعوا عن "النقّ" فالدنيا أصبحت بألف خير . فالطبقة السياسية الحاكمة وضعت خلافاتها جانباً وصار بإمكاننا متابعة البرامج الإخبارية وبرامج "التوك شو" من دون إنفعال أو توتر أو سوء مزاج ومن دون أن يقاطع أحدهم الآخر أو يصرخ في وجهه أو يرميه بكوب ماء، كما ساد الهدوء في مواقع التواصل الاجتماعي فلا شتائم ولا تشهير، فالمحبة والتوافق يغمران قلوب الجميع من محازبين وقيادات على إختلاف مذاهبهم فلا نبش لقبور الماضي ولا كمائن سياسية ولا كيديات ولا ثارات ولا تشنج ولا إنتقام ولا حساسيات مذهبية ومناطقية ولا إقصاء للآخر المختلف. فالدنيا بألف خير والسكينة تعمّ الأنحاء اللبنانية، فقد تمّ القضاء على الاصوات التي تلعلع في الشوارع والساحات معترضة على الهدر والفساد وهضم الحقوق. فالقضايا والملفات المصيرية كلها مؤجلة ولا فرق بين التوافق والتواطؤ، فالهم الوطني اليوم والقضية المركزية الكبرى هي في كيفية وضع اليد على النقابات وترهيب كل معترض إذ لا مكان في الأحاديات والثنائيات القديم منها والمستحدث لأي صوت نشاز مستقل.

كان للمعلمين الدور الحاسم في هذا الهدوء بإسم الديموقراطية والتوافق والتزام رأي القيادات والمرجعيات. قيل قديماً "كاد المعلم أن يكون رسولاً"، فأيّ رسالة تربوية حملت الانتخابات النقابية من دون التقليل من شأن أحد ومن دون التعدي على حريّة إختياره، وأيّ رسالة تربوية يحملها إقحام الأحزاب في التربية والتعليم؟

جاء في كتاب الأهداف العامة لمناهج التعليم (العام 1997، ص.714): إنّ الهدف من مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية هو "رفع مستوى مساهمة المتعلم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتعزيز مشاركته الحرّة في الحياة الوطنية العامة. وتربيته على النقد والنقاش وتقبّل الآخر وحلّ المشكلات مع نظرائه بروح العدالة والمسالمة وبأنّ الانسان هو غاية كل تنشئة وطنية أم مدنية بمعزل عن فوارق الجنس واللون والدين واللغة والثقافة".

فهل ما جرى في إنتخابات الأحد المنصرم هو رسم للسياسات التربوية التي تعزز المشاركة الحرّة في الحياة الوطنية العامة؟ وهل هناك تقبل للآخر ولو كان مستقلاً وغير ملتحق بركاب أي حزب من الأحزاب؟ وهل ناقش المحازبون قياداتهم قبل إتخاذ أي قرار ؟

مبروك. فقد نجحت الضغوط وانتقمت إدارات المدارس في يوم الثأر العظيم.

مع أنّ من المتعارف عليه أنّ المعلم في المدارس الخاصة مهدّد دوماً بلقمة عيشه لأنّ المادة 50 من قانون العمل سيف مصلت فوق رأسه، ومن المتعارف عليه أيضاً أنّ المواجهات الفردية ضعيفة وغير فعالة لذا ومن أجل ذلك أنشئت النقابات كمجموعات ضغط تعتمد الاساليب الديموقراطية بحيث تحمي حقوق المنتمين إليها وبحيث لا يمكن إستفراد المطالبين بحقوقهم، وإذا كان رجال السياسة ينزعجون من العمل النقابي المستقل، فهل من الجائز أن يتخلى المعلمون عن المساءلة والمحاسبة بإسم الإنتماء الحزبي؟ ألا يتناقض إنزال اللائحة "زي ما هيي" مع رسالة المعلم التربوية في تنمية الحسّ النقدي وحريّة الاختيار وحسن التقويم والتفكير، والقدرة على التعبير الحرّ وبناء الشخصية المستقلة؟ تُرى ما يكون عليه مواقف أساتذة الأدب العربي أمام طلابهم وهم يشرحون نص جبران "لكم لبنانكم ولي لبناني" وقصيدة "الجسر" للشاعر خليل حاوي "أين من يُفني ويُحيي ويُعيد/ يتولى خلق فرخ النسر/ من نسل العبيد؟/ يعبرون الجسر في الصبح خفافاً/ أضلعي إمتدت لهم جسراً وطيد/ من كهوف الشرق من مستنقع الشرق الى الشرق الجديد/ أضلعي إمتدت لهم جسراً وطيد".

وما عساهم يقولون عندما يصلون الى قصيدة "حزب المطر" لنزار قباني:

"تتدحرج الشمس في آفاقنا/ كقطار شحن عثماني/ ينقل الأحزان من الخليج الى المحيط/ وينقل توابيت الديموقراطية/ من المحيط الى الخليج".

خلاصة القول، لم يعُد موضوع إزاحة نعمة محفوض أو سواه من النقابيين المستقلين هو المهم، وإنّما أخطار مصادرة الحياة السياسية والتربوية والنقابية والطالبية، وتعطيل الهيئات الرقابية والمطلبية وهيئات المجتمع المدني في محاولة لتدجين اللبنانيين وتيئيسهم من القيام بأيّ محاولة لتحسين عيشهم وتغيير واقعهم عبر الآليات الديموقراطية، كما تبرز أخطار تفريغ الحياة الوطنية العامة من حيويتها عبر تهميش العدد الأكبر من أصحاب الرأي الحرّ وإعتبار تكتل الأحزاب قدراً تصعب مواجهته في أي تحرك لإنتزاع حقوق الناس وللحفاظ على مكتسباتهم، وإستنساخ نماذج 99،99 في المئة المجاورة التي أدت الى الفوضى والخراب والتشرّد في المنافي البعيدة .


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم