الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أعماق المفاوضات السورية في الأستانة وجمال باشا القرن الجديد

براء صبري -كاتب وحقوقي سوري
أعماق المفاوضات السورية في الأستانة وجمال باشا القرن الجديد
أعماق المفاوضات السورية في الأستانة وجمال باشا القرن الجديد
A+ A-

في عام 1920، وبناءً على اقتراح وتشجيع موسكو، ذهب جمال باشا القائد العثماني الشهير الى أفغانستان حيث ساعد في تبديد شكوك الأفغان في روسيا بعد التحريض الانكليزي المضاد لها. ويقال إن ملك الأفغان كتب رسالة الى لينين في نهاية عام 1920 قال فيها: "إن سمو جمال باشا أطلعنا على الأفكار والنيات النبيلة للجمهورية السوفياتية بشأن تحرير العالم الشرقي بكامله...". ونجح الروس في تبديد الشكوك الى حد ما من خلال استخدام الشخص المذكور في افغانستان، وتوجيه أنظار الأفغان الى العدو الانكليزي القابع في الهند بدلاً منها. مناسبة الحديث السابق هو لتبديد النظرة الهامشية على إصرار الروس على اختيار مدينة أستانة عاصمة كازاخستان للمفاوضات، وتحفيزها للأتراك للمشاركة فيها على حساب باقي دول العالم السنّية الأخرى ذات الوزن الهام في الإقليم كالسعودية المشغولة بحربها في اليمن ومصر المشغولة بوضعها الداخلي. 


في الرؤية المقربة لمسيرة فلاديمير بوتين الاستعراضية، وفي المتابعة المكثفة لخطاب الإعلام الروسي المستند إلى لغة العظمة والتاريخ سيفهم المتابع مدى أهمية الماضي في مخيلة الروسي صاحب القرار السياسي في البلاد، والذي يجد في روسيا دولة عظيمة لا بد لها من أن لا تفقد مكانتها في الساحة العالمية على رغم أن تلك المخيلة والخطاب يكلف الروس العاديين، والآخرين من الشعوب الذي تدور الأحداث على أراضيهم، الكثير. يقاتل الروس في سوريا منذ سنتين، ومن المسلم به في العالم العربي والإسلامي ان الروس يدعمون النظام السوري حتى قبل التدخل المباشر الأخير لهم في سوريا. وهناك رؤية شبه عامة في المنطقة، وإن لم تترسخ بعد الى حد القناعة التامة، عن أن الروس يجدون في نفسهم حلفاء للشيعة على حساب السنّة بدليل تمسكهم بنظام الأسد في سوريا، ووقوفهم في معظم الأوقات مع النظام الشيعي في طهران خلال سنوات الحصار المديدة لذلك النظام، وإن لم تكن الصورة بهذه الكلية إن كنا نتذكر تمسك روسيا بصدام حسين، ورفضها التدخل الغربي في ليبيا "القذافي"، وإن كنا نشاهد توددها الحالي الى اللواء خليفة حفتر السنّي في شرق ليبيا. ولكن، بدأ الحديث في الأروقة المجتمعية يسطع من هذه الزاوية السلبية لروسيا على اعتبار أن المجتمعات تنسى التفاصيل السابقة بسرعة، وعلى اعتبار أن الحركات الجهادية تبحث عن أي شيء يساعدها في التجييش والتحفيز لزيادة اتباعها. ويمكن لأي شخص متابعة صفحات التواصل الاجتماعي للجماعات الشعبية السنّية واستنتاج مدى الكراهية التي يحملها العالم السنّي لروسيا المتهمة بقصف المدارس والمستشيفات في المدن السورية المختلفة ذات الحاضنة السنّية كحلب وإدلب.


لا يشمل التدخل الروسي في سوريا معركة وحيدة فقط، بل هو تدخل في خط دولي ساخن يبدأ من الحدود الصينية، ويمر في أواسط آسيا الى القوقاز، ويمر في الشرق الأوسط، ولا ينتهي في البلقان. وحتى أعماق الدولة الروسية والدول الأوربية تشكل مسارح متقطعة لشظايا تلك الحرب التي بدأت تفوح منها رائحة الحرب الدينية والمذهبية، والتي لن تنتهي بسهولة على ما يبدو من الأحداث المريرة في المنطقة ككل.


يقطن روسيا أكثر من عشرين مليون مسلم، وجلهم من السنّة. ويحاذي حدودها الجنوبية، والجنوبية الشرقية الملايين من المسلمين السنّة أيضاً، ومعظم هؤلاء ذو هوية قومية تركية أو يتكلمون التركية أو لديهم رابط نفسي، أو اجتماعي، أو ثقافي مع تركيا على اعتبار أنها الوريث الشرعي للسلطنة العثمانية الآفلة. وعلى اعتبار أن أهل الشرق يعشقون عظمة الماضي الآفل، وحكايات السلاطين والسلطة الغابرة. لا يمكن لروسيا رغم حاجتها الملحة للبقاء في المتوسط، وحاجتها لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، ورغم أهمية معركة أنابيب الغاز الدولية التي تشكل جغرافية سوريا أحد مسالكها الرئيسية ورغم حاجتها إلى فتح ملفات جديدة تساعدها في الهروب من الخلاف مع الغرب على القرم وشرق اوكرانيا أن تنسى انها تشكل بأفعالها هناك صورة عدائية عن نفسها من خلال الدعم اللامتناهي لدمشق لدى مجتمع السنّة في العالم ككل. لا تستطيع روسيا ان تتحمل معارك غير واضحة كالتي تنفذها جهات جهادية متطرفة، وهجمات منفلتة تنفذها الذئاب المنفردة في أي نقطة من العالم السنّي سيكون فيها أي مواطن روسي هدفاً فيها، وما حادثة مقتل سفيرها الغامضة في أنقرة إلا واحدة من تلك المخاوف. فكان لا بد لها من العمل على تخفيف الصورة السوداء تلك من خلال جلب شخص من طينة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي يعشق دور السلطان والقائد الإسلامي الى تلك المنطقة المهمة روسياً ليعلن من خلال الجلوس مع الروس، ومصافحتهم، ومن خلال الاشادة بالدور الروسي في سوريا، ومن خلال إعلانه أن روسيا تحارب الإرهاب، وتسعى للاستقرار والسلام في سوريا بأنه الشخص الأنسب للاضطلاع بذلك الدور المطلوب منه روسياً.


لم يكن الروس مستعدين للسماح لأي من الدول الإقليمية التي تدور في فلك الناتو أن تتمدد في سوريا إن لم يكن المقابل أغلى من خسارة بضع بلدات في شمال حلب. استغل الروس التخبط التركي الغاضب من الدور الأميركي الداعم للأكراد وحلفائهم العرب في سوريا تحت مسمى قوات سورية الديموقراطية، والغاضب من عدم إظهار دول أوروبا وأميركا التعاطف المطلوب مع حكومة العدالة والتنمية الناجية من محاولة انقلاب فاشلة، والتي تتهم تركيا جماعة الداعية الإسلامية "فتح الله غولن" المقيم في بنسلفانيا بالوقوف وراءها. فبينما رفضت واشنطن تسليم الداعية، وتأخرت أوروبا في إدانة الانقلاب، وأنهكت تركيا كل يوم صدى الردود الغاضبة من أوروبا على القمع الحكومي التركي للجهات السياسية، والإعلامية، والمدنية المعارضة لها بُعيد الانقلاب، سارعت روسيا وإيران بالتنديد بالانقلاب لحسابات خاصة بهما فتحول الخصام العلني والشديد بين تركيا وروسيا بُعيد إسقاط تركيا لطائرة روسية على الحدود السورية - التركية في تشرين الثاني 2015 الى خطاب ود وتضامن. وسمح لتركيا بالدخول الى جرابلس، والتمدد الى منطقة الباب السورية الهامة، وتحت أعين الطائرات الروسية التي ساهمت ببضع غارات جوية لمصلحة القوات التركية، وجماعة "درع الفرات" الموالية لها، والمفترضة أنها معارضة للنظام الذي تدافع عنه روسيا وإيران في نفس الوقت تنفيذاً لرغبة أنقرة في وقف التمدد الكردي المدعوم أمريكياً، والذي وصلت طلائع قواته المحررة لمدينة منبج الى أطراف بلدة الباب، وأصبحت قاب قوسين أو أكثر من ربط كانتوني كوباني وعفرين بعضهما ببعض. وما إن أعلنت أكثر من مرة قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ضد داعش بأن العمليات التركية في شمال حلب ليست جزءاً من عمليات قوات التحالف الدولي ضد داعش، وإن هي (قوات التحالف) رحبت بمحاربة تركيا لداعش في الوقت عينه كجزء من رفع الحرج عن نفسها أمام تصريحات الخارجية التركية المتكررة عن إهمال الغرب لعملياتها ضد داعش في حدودها الجنوبية. وما إن برأت نفسها من خلال الإعلان المذكور آنفاً بصورة شبه رسمية من تبعات التدخل التركي المدعوم روسياً هناك حتى زاد التقارب الروسي التركي الوليد حينها أكثر فأكثر.


يصر الروس على التمسك بتركيا الجريحة داخلياً والوحيدة حالياً في الجبهة السنّية المعارضة للنظام بعد المأزق السعودي في اليمن، وبعد تركيز مصر "السيسي" على مشاكلها الداخلية، وبعد ظهور مدى هشاشة الداخل التركي المتخبط في حرب لا تنتهي مع الأكراد، وخلافات لا تنتهي مع الجهات التي تعارض أردوغان الذي دعم موقفه حالياً بعيد الاستفتاء بـ "نعم" على التعديلات الدستورية التي ستعزز صلاحياته التنفيذية. ويفهم هذا التمسك من خلال الغض عن بعض التصريحات المنفلتة للحكومة التركية ضد نظام الأسد كالتي تبعت عملية الكيميائي في خان شيخون بمحافظة إدلب قبل فترة. التمسك الروسي بتركيا يأتي في المرتبة الأولى لمصلحة العمل الروسي لتبديد الصورة المشوهة عن روسيا لدى الجماعات السنّية القريبة من تركيا، ولإظهار ذاتها أمام الداخل الروسي الذي يشكل المجتمع الإسلامي جزءاً منه كراعية للسلام، وليس لأنها تجد في تركيا القوة اللازمة لإحلال السلام في سوريا، وهي مقتنعة في نفس الوقت أن السلام السوري الشامل يمر من جنيف لا من أستانة كما يحاول الإعلام الروسي وإعلام الدول القريبة منها إظهاره. وواضح كيف ضغطت تركيا هي الأخرى التي تجد في التقارب مع روسيا ورقة ضغط على الغرب الغاضب منها على الجماعات السياسية والعسكرية السورية المعارضة والتي يشكل الأطراف السنّيون الراديكاليون عمادها الرئيسي للحضور الى الأستانة، والقبول بالرعاية الروسية للمفاوضات رغم استمرار النظام وإيران في خططهما العسكرية وتمددهما حول دمشق وبغطاء روسي. وبالأخص في منطقة الخط الواصل بين دمشق ولبنان.


التدخل الأميركي الأخير في سوريا من خلال القصف المباشر لقاعدة الشعيرات العسكرية كان له وقع الصدمة في روسيا، وحرك المشاعر لدى تركيا على احتمالية العودة الى التحالفات التقليدية التي تكون فيها تركيا دوماً مع الولايات المتحدة والناتو ككل ضد روسيا وحلفائها. ولكن، الاستمرار الأميركي في الدعم العسكري لقوات سوريا الديموقراطية في سوريا، وإصرار الغرب على التشكيك بالديموقراطية التركية، وخصوصاً بعد حادثة منع الهولنديين لطائرة وزير الخارجية التركية بالهبوط لديها، والساعي حينها لدعم حملة العدالة والتنمية في التعديل الدستوري، إضافة إلى منع الألمان للحكومة التركية بالقيام بالحملات الترويجية بين أتراك المانيا، وتشكيك بعثة المراقبين الأوروبية بنتائج الاستفتاء الأخيرة التي جاءت لمصلحة حزب العدالة والتنمية بواقع 51 في المئة، فيما يبدو مسّ أردوغان شخصياً، والذي يرى في أي رد فعل معاكس لرغباته الشخصية رد فعل عدائي لكل تركيا! كل هذه العوامل كانت وراء الإصرار الروسي بُعيد الضربة الأميركية ضد نظام الأسد على أهمية المضي في المسار السياسي للأستانة رغم أنه مسار شبه ميت. وكانت وراء الإعلان التركي على أهمية الأستانة كمحفل للمفاوضات. فروسيا تعمل من خلال جلب أردوغان وفريقه السياسي الى الأستانة على وقف مشاهدات الجماهير الروسية للأعلام الروسية وهي تحترق في العديد من البلدان العربية، وخلال التظاهرات التي يكون المسلمون السنّة منظميها. وما الجولة الجديدة من المفاوضات التي تمت قبل فترة في كازاخستان والتي تضمنت طرحاً روسياً جديداً تحت مسمى "مناطق تخفيف التصعيد" غير الواقعي التطبيق، والمشكوك فيه أميركياً، والمهين للمعارضة التي تجد في تركيا غطاءها السياسي إلا جزء من تلك الآلية التي تستند الى منهج التاريخ. فروسيا تأتي بكل جديد وإن كان غير منطقي المحتوى فقط لتمديد العمل بآلية الجلوس في الأستانة للتغطية على الظهور العسكري المستمر لها في سماء سوريا ولتفادي خسارة تلك الورقة الهامة بالنسبة إليها. وما قبول تركيا بالطروح الروسية في كل مرة يجلسان فيها وبحضور إيران التي كسبت صفة "الراعي للحلول" في المفاوضات الأخيرة إلا جزء من الترفع على خيباتها مع الغرب، وبالأكثر مع أميركا التي بدأت بصورة رسمية العمل على تقديم السلاح للأكراد وحلفائهم العرب في سوريا لإنهاء معركة الرقة الأهم في سوريا ضد داعش حالياً في اعتراف شبه رسمي بأحقيتهم على قتال التنظيم ضمن التحالف الدولي على حساب جماعات سنية وتركمانية دربتهم تركيا ويراقبون الأحداث من بلدة الباب في شمال حلب وبالجوار المباشر من قوات النظام السوري وحلفائه الشيعة. ولا يفهم من إعلان موسكو عن جولة جديدة منا لمحادثات في أستانة إلا انه إصرار روسي على نهجه المبطن في استخدام تركيا لمصلحتها كواحدة من اهدافها المتعددة من تلك المفاوضات التي أصبحت عبارة عن جلسات روتينية تغطي على مشهد الحرب السورية التي لا تنتهي على الأرض.



[email protected]

FACEBOOK: Baraa Sabri



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم