الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

المارونيّة بين الدفاع والهجوم

المصدر: "النهار"
الشدياق يوسف "رامي" فاضل
المارونيّة بين الدفاع والهجوم
المارونيّة بين الدفاع والهجوم
A+ A-

لقد شكَّل تاريخ الأوَّل من أيلول عام 1920 المنعطف الهامّ في تاريخ المارونيّة في لبنان إذ نال الموارنة ما أرادوه فكان لهم دولة تُدعى "لبنان الكبير"، وتأكَّدَ هذا المنعطف مع الإستقلال اللبناني في 22 تشرين من العام 1943.

بالطبع أنا لا أستعرض هذه الأحداث والتواريخ من أجل بعث الحنين أو للتباكي على الماضي وعلى الإنجازات "المارونيّة" كما يطيب للبعض أن يُسمّيها. إنّما لا بدّ لنا ونحن على أعتاب الذكرى المئويّة الأولى لإعلان هذه الدولة "دولتنا" من أن نُعيد النظر في مسيرة "المارونيّة" وفي التبدُّل الذي طَرأ على سلوكِها بعد أن تَبَنَّت هذا الوطن، بحيث أنّ الموارنة جعلوه "قبلتهم" و"محجّتهم" رغم انتشارهم في كلِّ أصقاع الأرض، وهو "لبنان" أعطاهم اسمه ورموزه فأصبح المارونيّ لبنانيّ الإنتماء حكمًا! سواء حمل الجنسيّة اللبنانيّة أو لم يحملها!

وفي هذا "التبنّي" الكثير من الإيجابيّة، إنما فيه أيضًا الكثير الكثير من السلبيّة والمحدوديّة التي أثَّرَت على "الهويّة الكنسيّة" للمارونيّة، كما وأثَّرَت على الهويّة المدنيّة للدولة اللبنانيّة.

ويمكننا أن نلاحظ أنَّ السلوك المارونيّ قبل إعلان دولة لبنان الكبير هو سلوك "هجوميّ" إذ أن هذه الكنيسة الصغيرة التي انحصر تواجدها زمن المماليك في وادي قنّوبين وفي بعض الوديان والجبال الشماليّة، عرفت كيف تمتدّ على مساحة لبنان وصولًا إلى الأراضي المقدّسة وقبرص ومصر دون أن ننسى الإنتشار القسريّ الذي وصَلَ بالمهاجرين إلى أدغال أمريكا اللاتينيّة وإلى أزقّة "الناورك" أي نيويورك كما كانوا يسمّونها. كما أنَّ هذه الكنيسة الفقيرة عرفت كيف تستثمر علاقاتها بالغرب وبشكلٍ خاص روما وفرنسا من أجل التأسيس لنهضة علميّة تُرجِمَت بالمدرسة المارونيّة في روما وبمطبعة مار انطانيوس "قزحيا" وبمدرسة عين ورقة التي أصبحت "سوربون الشرق" بالإضافة إلى العديد من الإرساليّات والبعثات التي وطئت أرض لبنان بسبب الموارنة وبدعوةٍ منهم، لكلّ هذه الأسباب ولغيرها كانت النهضة العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين، وكان الدور الرياديّ للموارنة في قضايا وهموم محيطهم.

ولا يمكننا أن ننسى الوعي "الإرساليّ" و"البشاراتيّ" الذي تمتّعت به المارونيّة في تلك الأيام إذ تضاعف عدد معتنقيها وتضاعفت نسبتهم رغم أن القاعدة التاريخيّة تفترض تناقص نسبتهم لحساب دين الدولة آنذاك وما عائلات "الهاشم، أبي اللمع، شهاب، زغيب، شقير..." وغيرها الكثير سوى التأكيد على الدور المارونيّ "البشاراتيّ" في ذلك الزمن، إذ وظّفوا علومهم وعلاقاتهم السياسيّة وامتيازاتهم في خدمة "إنسانهم" ورغم كلّ الهفوات التي ارتكبوها إلّا أن سعيهم الحثيث لعيش رسالتهم تفوَّق على ضعفهم وعلى كبواتهم العديدة فكان مسار التاريخ تصاعديًا في ديارهم، وتصاعد هذا التاريخ من أجل "الإنسان" تحديدًا، فلم يبخل بطاركة هذه الكنيسة ببذل ذواتهم من أجل شعبهم كالبطريرك دانيال الحدشيتي وبطريرك حجولا على سبيل المثال، كما لم تبخل الكنيسة المارونيّة مع البطريرك إلياس الحويّك والأباتي إغناطيوس التنّوري برهن كلِّ أملاكها لإطعام الجياع في الحرب العالميّة الأولى. هذه الكنيسة الفقيرة لم يكن لها من "أملاك" تدافع عنها سوى الإنسان لذا نرى أفضليّة الإنسان على المؤسّسة والمثال على ذلك هي المدارس المارونيّة التي كانت تُنفِقُ على الطلّاب وليس العكس، لا وبل كانت الشروط لإنشاء مدرسة تتضمّن التعليم المجّانيّ أو التعليم على نفقة البطريركيّة المارونيّة.

لم يكن لهذه الكنيسة من مؤسسة تدافع عنها أو تُسخِّر طاقتها من أجلها، لا وبل لم تكن هذه الكنيسة بالمؤسسة على الإطلاق فالتنظيم الذي فيها كان فطريًّا عفويًّا وإنجيليًّا بالدرجة الأولى، والرؤيا التي كانت تحملها لم تكن نتيجة دراسات اللجان أو أصحاب الإختصاص من علماء السياسة والديمغرافيا، بل انبثقت رؤيتها من السعي المتواصل إلى عيش الإيمان بحرّية ومحبّة ومن الإنشداد نحو مشاركة هذا الفرح –فرح الإيمان المسيحي- مع "الآخر المُختلِف" بالوسائل والطرائق المسيحيّة. أمّا استعمالها للعنف في الدفاع عن نفسها فلم يكن القاعدة يومًا بل كان "أبغض الحلال" بالنسبة لها! وما انفتاحها على ثقافة محيطها وعلى اللغة العربيّة بالإضافة إلى تبنّيها لقضايا المنطقة سوى التأكيد الصارخ على نهجها السلميّ في التعاطي مع محيطها وعلى أمانتها للرسالة المسيحيّة التي تتخطّى الحواجز اللغويّة الدينيّة العرقيّة والثقافيّة.

كلّ هذه الأدلّة وغيرها تؤكّد لنا أن السياسة المارونيّة قبل "لبنان الكبير" كانت سياسة "هجوميّة" بالدرجة الأولى، تَنبَعُ من الذات وتصبّ في بحر "الآخر المختلف"، أما الحقبة الحاليّة والتي حدّدناها بحقبة (ما بعد لبنان الكبير) فتتصِّف بالدفاعيّة وذلك لعدّة أسباب ومنها أن الكنيسة المارونيّة أصبحت تملك ما تخاف عليه، إذ انتقلت للدفاع عن امتيازاتها ومكتسباتها، وبالدرجة الأولى الدفاع عن "الكيان" الذي اعتبرته ثمرة نضالها وتعبها التاريخيّ، وعلى الرغم من كلّ الإيجابيّات التي تحقَّقت بإقامة دولة لبنان الكبير، غير أنَّ قيام هذه الدولة حَدَّ إلى حَدٍّ كبير الدور الماروني خارج حدود الوطن الجديد! لا وبل حَدَّد الدور المارونيّ داخل هذا الوطن وحَصَرَهُ بحصصٍ معيَّنة وبمراكزٍ وصلاحيَّات ليس للكنيسة ولمفهوم "الكنسيّة" أيّ علاقة مباشرة بها! ويمكن لنا القول بأن الكنيسة انزلقت إلى الدخول ضمن النظام السياسيّ اللبنانيّ والهرميّة السلطويّة في هذا الوطن وهذا ما تمثَّلَ ب"المارونيّة السياسيّة" التي يعتبرها الأب الراحل ميشال حايك "أدهى تجلّيات الدور المارونيّ في لبنان وأبعدها عن حقيقة المارونيّة"! أصبح لهذه الكنيسة "كراسي" وزراء نوَّاب مؤسَّسات مدارس وجامعات والعديد من الأملاك والإمتيازات الأخرى، وانتقل الهدف من الحفاظ على الإنسان، إلى الحفاظ على هَيبَة الكرسيّ ووَهرة السلطة واستمراريّة المؤسسة، وإلى الدفاع عن "الوجود" دون الإنتباه إلى أنّ هذا الوجود لا قيمة له دون حضورٍ فعليّ يرتبط بالبشارة وبالرسالة المسيحيّة بالدرجة الأولى! حتّى في الأدبيّات السياسيّة عند الأحزاب "المسيحيّة" يمكننا أن نلاحظ هذا المسار الإنحداريّ في الشعارات التي تتمحوَر حول استرجاع حقوق المسيحيين وضمانة البقاء والمتاجرة بالدفاع عنهم، حيث وللمرة الأولى في تاريخ المارونيّة تجرأ البعض على طرح إشكاليّة "من يدافع عن المسيحيين؟" وروّج البعض لمفهوم حلف الأقليّات بحيث تتحّد هذه المكوّنات للدفاع عن بعضها البعض، بالإضافة إلى من روَّج لضرورة إسترضاء الأكثريّة والانبطاح أمامها للهدف نفسه، فبعد أن كان من يبحث عن الحماية يلجأ إلى جبل الموارنة أصبح الموارنة يستعطون الحماية من ورقة تفاهمٍ من هنا أو من حلف سياسيٍ من هناك، أو من "لعبة المصالح" بأحسن الأحوال.

يمكننا أن نفهم حقبة ما بعد لبنان الكبير بالعودة إلى الجدليّة الهيغليّة وبمقارنة وضع المارونيّة بوضع الشيوعيّة التي وَصَلت إلى غايتها النهائيّة ولم يعد لتاريخها من محطَّةٍ أو توليفةٍ جديدة يَنشَدُّ إليها فسَقَطت الشيوعيّة وانتهت لمجرّد أنّها جَمَّدت التاريخ! أما في حال كان "لبنان الكبير" هو الغاية أو التوليفة الأخيرة للمارونيّة فلا شكّ أنَّ المارونيّة آيلة إلى الإنتهاء أقلَّهُ من ناحية الدور الحضور، لذا فالحاجة الضروريّة والطارئة للمارونيّة اليوم هي في البحث عن رؤيا تُنقِذُ التاريخ من جموده، وتُنقِذٌ المارونيّة من "النهاية" ولا بدّ لها من التحرُّر من الذهنيّة الدفاعيّة قبل أيِّ شيء آخر وذلك من خلال "الفقر الإختياريّ" الذي يفكّ ارتباطها من كلّ الأملاك والإمتيازات التي تُكبّلها، فمجرَّد تبدُّل الذهنيّة كفيلٌ بأن يفتح الطرق أمام حركة المارونيّة التاريخيّة! أمَّا "المُنقذ التاريخيّ" فلن يأتي من الوسط السياسيّ (الملوكيّ)، ولا من الوسط الكهنوتي بل من الوَسَط الشعبيّ (النبويّ) تمامًا كما أتى يسوع من الخطّ النبويّ فجمَّعَ التاريخ عنده وأعاد إطلاقه من جديد!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم