الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

“قروي صغير” يفتتح “أسبوع النقّاد”: حليب كامل المأساة!

المصدر: "النهار"
“قروي صغير” يفتتح “أسبوع النقّاد”: حليب كامل المأساة!
“قروي صغير” يفتتح “أسبوع النقّاد”: حليب كامل المأساة!
A+ A-

بدءاً من الجمعة الماضي وحتى الاثنين المقبل، يُتاح للجمهور اللبناني متابعة “أسبوع النقّاد - الدورة ٥٦” (أقدم الأقسام الموازية في #مهرجان_كانّ السينمائي) في نسخته البيروتية التي تجري في مجمع “متروبوليس”. مناسبة لا تفوَّت للتعرف إلى أنماط وأشكال فيلمية “مغايرة”، أغلبها بتواقيع شبابية ورؤى عصرية للسينما. هذه التشكيلة من الأفلام التي أختارها المسؤولون عن “أسبوع النقاد” بقيادة الناقد الكبير شارل تيسون، هي الأفضل منذ سنوات طويلة. يضعنا البرنامج في أمزجة مختلفة، تتشكّل عبر تنوع الحكايات أو أنماط سردها. اختار المنظمون اللبنانيون “قروي صغير” لأوبير شارويل فيلماً للافتتاح. في كانّ، افتُتح القسم عينه بـ”قصة شبح صقلي” للايطاليين أنتونيو بيازّا وفابيو غراسادونيا (سيحضران إلى بيروت).  

“قروي صغير”، أحد أقوى التعابير عن #السينما التي من المفترض أنّ قسماً كهذا يدافع عنها. كان محطّ إشادة لدى عرضه في كانّ أيار الماضي، علماً أنه عُرض خارج المسابقة. القصة بسيطة جداً وهي تدور بشكل أساسي على بيار (سوان أرلو)، مربّي الأبقار. يستخرج منها الحليب لغرض تجاري. حياته كلها تتركّز على المزرعة التي ورثها من والديه. يتغيّر كلّ شيء عندما يكتشف أنّ وباء تفشى وسط المواشي وأصاب إحدى الأبقار. ما العمل؟، خصوصاً أنّ القوانين صارمة في هذا المجال، وإن كانت مجحفة في حقّ أهل القرى الذين لا يزالون يعتاشون من منتوجاتهم الطبيعية. استدعاء المراقبين يعني بالتأكيد التضحية بالقطيع كلّه. فلا مجال للنقاش مع السلطات المكلّفة بالأمن الصحي. إلا أنّ في جعبة بيار مخططاً آخر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولو كان على حساب القانون.

المخرج أوبير شارويل ابن الإحدى والثلاثين سنة، المتحدّر من عائلة من المزارعين ورعاة البقر يقدّم مع “قروي صغير” فيلمه الأول. دعونا نقول في البداية إنّ الاحساس بصحّة الأشياء عالٍ جداً في هذا الفيلم. صحّة الأداء والضوء والحوار والمواقف. كلّ شيء سليم، ما يساعد في دخولنا إلى صميم الحكاية. يتجلّى بوضوح أنّ شارويل يعرف جيداً هذا العالم ودهاليزه، وهو عالم يلتقطه لمرة أخيرة قبل أن يتفتّت. فخلف مأساة بيار المجبر على التضحية بكلّ ما يملكه (أي صناعة كاملة: إنتاج حليب البقر وإرساله إلى الأسواق)، ثمة فيلم يكافح بصمت وكآبة وإحساس بالمسؤولية، لا من أجل شيء إنما لردّ الاعتبار إلى هؤلاء المزارعين الذين باتوا مهدّدين بالانقراض، وكاد حضورهم على شاشة السينما أن يصبح معدوماً.

لم يبحث شارويل طويلاً للعثور على الخطوط العريضة للحكاية التي يسردها. اكتفى بنبش بعض فصول وباء جنون البقر الذي ضرب للمرة الأولى قبل عقدين وراحت ضحيته آلاف الأبقار في خطوة استباقية لتفادي انتشار المرض. يتذكّر أنّ لحظة اكتشافه جنون البقر لازمته طويلاً، وعندما تعود إلى باله تلك المرحلة من حياته يتخيّل نفسه أمام التلفزيون يشاهد تفشّي مرض يجهل طبيعته وينتهي بقتل حيوانات. ثم صوت أمه التي تعلن: “إذا حلّت بنا كارثة كهذه، سأنتحر!”.

من شدّة رغبته في الالتصاق بالواقع المعيوش، صوّر شارويل فيلمه في مزرعة والديه. يدرك تمام الإدراك عمّا يتحدث، فهو ابن الأرض والبيئة القروية، مشبّع برائحة الحليب وروث الأبقار. إلا أنّ الفيلم يذهب أبعد من مجرد تأكيد وجهة النظر ليغدو عملاً كاملاً متكاملاً، فيبدأ مشواره مع الشخصية الرئيسية حيث تتحلق حوله كلّ شيء، العائلة والرفاق والانشغالات والقضايا والهموم. يتحوّل بيار شخصية مستقلة شيئاً فشيئاً بمعزل عن البيئة التي يتبلور في أحضانها. التنصّل عن الأزمة تتحقّق تدريجاً لتصبح الحكاية حكاية رجل عليه أن يجد حلاً في ظروف ضاغطة لا ترحم، الأمر الذي يورّطه في سلسلة أكاذيب، كل أكذوبة تجرّ أخرى. يتضخّم الجانب العدائي عند بيار في اللحظة التي يدرك فيها ألا أحد في صفّه، وهو وحيد في ورطته وخسارته. وتكبر معاناته عندما يرفض الاعتراف بالمشكلة، لا بل يعيش حال انكار تحول دون رؤيته التغيير الحاصل من حوله. في النهاية، يعود الفيلم إلى موضوعه الأساسي: كيف يواكب من سُلب كلّ شيء بزوغ عالم جديد؟

بين الجزء الأول والثاني، تغييرٌ كبير يطرأ على صعيد الدراما السينمائية واللغة، إذ ينزلق الفيلم من “الناتورالية” على الطريقة الفرنسية إلى شيء أقرب من الثريللر النفسي، مع كلّ ما يحتاجه من لغة بصرية.

في المقابلة المنشورة داخل الملف الصحافي للفيلم، يقول شارويل إنّ “قروي صغير” هو عن القيود التي يفرضها الشغل في مزرعة: العمل سبعة أيام على سبعة، حلب البقر مرتين يومياً، على مدار السنة، وطوال الحياة كلّها. ثم هناك العلاقات مع الوالدين الحاضرين دائماً، فثقل هذا الإرث. الحركات الجسدية تصبح أشبه بطقوس، يتمّ حلب الأبقار بالنحو الذي يذهب المزارع إلى الصلاة، صباحاً ومساءً. ويختم شارويل كلامه بالقول إنّ الازدواجية في التعامل مع الحيوانات من صلب العمل الزراعي؛ فصاحب الأبقار يكنّ تجاهها الودّ، ولكن في الوقت عينه عليه أن يتاجر بها. 


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم