الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"مدينة الرغبة العالمية" معرضاً نادراً للصور في "غاليري صالح بركات"... وضّاح فارس "التقط" بيروت الستينات والسبعينات بالأسوَد والأبيض

المصدر: "النهار"
محمد شرف
"مدينة الرغبة العالمية" معرضاً نادراً للصور في "غاليري صالح بركات"... وضّاح فارس "التقط" بيروت الستينات والسبعينات بالأسوَد والأبيض
"مدينة الرغبة العالمية" معرضاً نادراً للصور في "غاليري صالح بركات"... وضّاح فارس "التقط" بيروت الستينات والسبعينات بالأسوَد والأبيض
A+ A-

كان ينبغي لنا أن نقصد "غاليري صالح بركات" في شارع كليمنصو، لنتعرّف إلى "مدينة الرغبة العالمية"، بيروت الستينات وأوائل السبعينات، من خلال معرض ملتقَط بالعدسة، يعزّ نظيره. وقد ذهبنا إلى هناك، واكتشفنا عالماً نادراً من الصور، شيّده وضّاح فارس صورةً صورةً. هاكم الانطباعات. 

لم يقدّر لنا أن نعرف بيروت في مرحلتها الممتدّة بين 1960 و1975، وهي الفترة التي اتُفق على تسميتها "ذهبيّة". كنا، حينها، نودّع سنوات المراهقة، في منتصف سبعينات القرن المنصرم، شأننا شأن ذاك الجيل الذي استفاق على حرب أهليّة مدمّرة، شكّل إندلاعها انبثاق هموم سياسية وأهواء عقائدية لدى الشباب ترتبط، في جزء منها، بأسباب تلك الحرب ومجرياتها. وقد زاد من ضعف معرفتنا تلك، واقع انتمائنا إلى منطقة بعيدة، نسبياً، عن العاصمة، التي كنا نقصدها لأمور إدارية أوّلاً، ونخصّص بعض الوقت من أجل الإطّلاع على شؤونها الثقافية، بالقدر الذي يسمح به مستوانا الفكري الذي لم يتعدّ كثيراً العموميات. لكن صوراً بقيت عالقة في ذهننا: مقهى الـ"هورس شو" ورواده الذين كان يوحي مظهر بعضهم بالتشاوف والعظمة، وبعضهم الآخر بالبوهيمية؛ الحياة الصاخبة في شارع الحمرا؛ الفتيات اللواتي كنّ يرفلن بتنانير قصيرة في زمن موضة الميني جوب، وسيارات السرفيس، المرسيدس، ذات الطراز العتيق والجميل.  

لم نع إلاّ بعد حين أنه فاتنا أن نتعرّف إلى تلك المرحلة كما يجب. كنا قرأنا عنها ورأينا بعض الصور، وشاهدنا أفلاماً وثائقية قصيرة، بعضها لم تتم صناعتها على أيدي محترفين فجاءت مبتورة وناقصة. ثمة الكثير الذي يمكن أن يُقال عن تلك الفترة، كما ثمة الكثير الذي يمكن أن يُرى، وهذا ما يصبو إليه المعرض المُقام تحت مسمّى "بيروت مدينة الرغبة العالمية"، لدى "غاليري صالح بركات"، الذي يُشهد له بابتكار موضوعات خارجة عن المألوف للمعارض المُقامة في صالته، سعياً وراء إغناء الحياة الثقافية، أو لفت المهتمين بها، نحو لحظات تمثّل إرثاً ترسَّخ على صفحات تاريخ بيروت الثقافي. على أن هذا الأمر لم يكن ليتم لولا "توريط" وضّاح فارس في هذه المهمة، عبر دفعه إلى نبش أرشيفه الخاص الممتلئ صوراً وملصقات ووثائق تؤرّخ لتلك المرحلة العابقة بتطلّعات حداثية، شارك في إطلاقها كتّاب وشعراء وفنانون لبنانيون ممن حملوا لواءها، بمساندة زملاء لهم وفدوا من بلدان عربية أخرى، بعدما كانت ذراعا العاصمة مفتوحتين لإستقبال من انحسرت أجواء الحرية في وطنه، ووجد في بيروت ملاذاً ومتنفساً وأجواء ملائمة لما كان يريد قوله، أو فعله.  

صور كثيرة يتضمّنها المعرض كانت التقطتها عدسة وضّاح فارس، الذي كان منغمساً، شخصيّاً، في أمواج ذاك المحيط "الهائج"، وشاهداً على ما كان يدور على صفحته. صور لشخصيات ثقافية من عوالم عدّة، غادر العديد منهم عالمنا، وبلغ بعض الأحياء منهم من العمر عتياً: غسّان تويني يدخّن سيجارته التي كان مشغوفاً بها، فرنسوا عقل يدخّن سيجاراً يبدو أن تخلّى عنه في الوقت الحاضر، شوقي أبي شقرا بعينين شبه مغمضتين وهو سارح في المجهول، يوسف الخال يتطّلع جانباً برفق، مروان حمادة شاباً وتعلو شعره الأسود نظارة شمسية، ميشال أبو جودة يتحدّت على الهاتف بجدّية واضحة، شفيق عبّود مبتسماً وسلوى روضة شقير ضاحكة، هوغيت كالان وسيتا مانوكيان غارقتان في لحظة تفكير عميقة ورفيق شرف متحدّياً، هيلين الخال منفرجة الأسارير وأمين الباشاً منكّباً على عمل فني، حنان الشيخ بجمالها الملغّز وجانين ربيز بأناقتها البورجوازية... وغيرهم كثرٌ ممن رصدتهم كاميرا فارس، واستُخرجت من علبتها صورٌ بالأسود والأبيض تبدو كأنّها على انسجام تام مع روح الذكريات، ورائحتها التي تفوح من كل لقطة.  

إلى ذلك، لا تقتصر صور المعرض على شخصيات من عالم الثقافة والفن، بل تتعداه إلى موضوعات أخرى كمهرجانات بعلبك الدوليّة، التي يبدو أن علاقة خاصة جمعت وضّاح فارس بذلك النشاط الفني السنوي، الذي بلغ ذروته عبر السنوات التي سبقت الحرب، من خلال استقدام اللجنة المنظمة أسماء عالمية، كي تحيي حفلات ضمن محيط تاريخي فريد. الصور التي التقطها وضّاح فارس صارت، هي أيضاً، من التاريخ الفني الغني لتلك التظاهرة التي أنهكتها الحرب والظروف غير العادية، بحيث لم تعد في رأي كثيرين على المستوى نفسه الذي صنع شهرتها، وكأن تلك الصور تنتمي، بدورها، إلى فترة ذهبيّة في تاريخ المهرجان الذي صارت تقلّده، في الوقت الحاضر، مدن لبنانية كثيرة، بعدما كان الوحيد، في ستينات القرن الماضي وبداية سبعيناته، الذي استقطب الخليقة من محبي فنون الغناء والموسيقى.  

وإذا كان من صفة نطلقها على الصور المعروضة، المدعومة بملصقات تعود إلى الفترة نفسها، فهي، إضافة إلى حِرفيتها، تلك العفوية التي استطاع فارس من خلالها، عبر اختياره لحظات معبّرة، القبض على مفاصل ذهنية لذاك الزمن الذي تبدو شخصياته مشغولة بمهام لم تُفرض عليها فرضاً، بل أتت كانعكاس لمناخ عام قائم على اعتبار الثقافة اقتناعا مبدئيا، تجد من يتلقّى معطياتها، ويتفاعل معها. هذا الأمر صرنا نفتقده في الزمن الحاضر، للأسف، والدلائل على هذا الحكم كثيرة، ولا ضرورة لتعدادها. من ناحية أخرى، وفي إتجاه آخر متعلّق بالمعرض، لم ينس صالح بركات أن يُضيف لمسة أخيرة على محتوياته، من أجل إكتمال المشهد قدر المستطاع، وذلك من خلال تعليق أعمال تشكيلية تنتمي إلى الفترة المذكورة، لفنانين كانت عُلّقت صورهم في المساحة ذاتها، ما يساعد على تلمّس النبض العام الذي صار ذكرى لجيلنا الحاضر، وللأجيال المقبلة أيضاً.

* فنان وناقد تشكيلي وأستاذ جامعي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم