الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"أسعد رجل على الأرض"... رسالة من ماثيو ريكار، الرَّاهب البوذيّ، إلى كلِّ اللبنانيِّين

هالة حمصي
هالة حمصي
"أسعد رجل على الأرض"... رسالة من ماثيو ريكار، الرَّاهب البوذيّ، إلى كلِّ اللبنانيِّين
"أسعد رجل على الأرض"... رسالة من ماثيو ريكار، الرَّاهب البوذيّ، إلى كلِّ اللبنانيِّين
A+ A-

71 عاما. الدرس الذي تعلّمه ريكار من الحياة هو انه "يمكن ان نتغيّر لنصبح بشرًا افضل. غير أنَّ علينا، كي تتغير الامور بالفعل، ان نتجرأ على "معانقة" الغيرية"، يقول لـ"النهار". نعم، يؤمن بان "الانسان قادر على ان يكون سعيدا، لان الصفات البشرية التي تجلب السعادة- الاحسان، التعاطف، الانفتاح على الآخرين، الحرية الداخلية، السلام الداخلي، المرونة، التوازن العاطفي الخ- كلها مهارات يمكن التدرب عليها". 


ابن فيلسوف ورسامة تجريدية راهبة بوذية، يحمل ريكار دكتوراه في علم الوراثة الجزيئية من معهد باستور في فرنسا. رغم مستقبل علمي واعد له، اختار قبل نحو 45 عاما ان يكرّس بقية حياته لممارسة البوذية التيبتية. وقادته رحلته الروحانية الى عوالم اخرى، الى معلمين روحيين ووجوه وتقاليد وجبال ووديان من الهناك الاخاذ، الى داخله المشغوف بالغيرية والسعادة، المسكون بالحرية. "السلام ليس فقط غياب الحرب او مجرد الفوز بها. انه عملية فعالة لقطع الكراهية"، يشرح.     


العام 2012، اعلنه علماء اميركيون في علم الاعصاب "اسعد رجل على وجه الارض"، وهو لقب يجد ريكار "انه مضحك... واعرف رهبانا اكثر سعادة مني"، على قوله لصحيفة "اندبندنت". ما بيّنه تخطيط لدماغه، بعد وصله بـ256 جهاز استشعار- واجري في جامعة ويسكونسن، في اطار بحث علمي استمر 12 عاما، وشمل مئات الاشخاص المتقدمين في ممارسة التأمل- ان دماغ ريكار ينتج، عند تأمله في التعاطف، مستوى من موجات غاما- وهي موجات ترتبط بالوعي والانتباه والعلم والذاكرة- "بطريقة لم يُبلَّغ عنها في طب الاعصاب من قبل"، وفقا للعالم ريتشارد دافيدسون.   

 ايا يكن، "السعادة شعور عميق من الاشراق، ينبعث من عقل سليم استثنائي"، يقول ريكار (71 عاما). في رصيده حتى اليوم 9 كتب على الاقل عن التأمل والغيرية والتيبت والسعادة، 9 "البومات صور" من تصويره، من اجمل ما يمكن تخيّله عن ارض التيبت وبوتان والرهبان البوذيين، اضافة الى العديد من الترجمات والكتب التي شارك في وضعها مع مؤلفين آخرين. واشهرها "الراهب والفيلسوف" الذي وضعه مع والده الفيلسوف الفرنسي الراحل جان فرنسوا روفيل. وكان من "افضل الكتب مبيعا" في اوروبا، وترجم الى 21 لغة.  

رسالة من جبال النيبال الى كل اللبانيين. ما يرجوه ريكار منهم "ان تقبلوا الفوارق بينكم، وتعيشوا بسلام مع بعضكم البعض". ويدعوهم الى ان "تكونوا منطقيين، منفتحي العقل، واشخاصا جيدين يتمتعون بالحب والتعاطف. انها الطريق الوحيدة الى السعادة"، يؤكد.

من ديره في النيبال، دير شيشين تينيي دارلغييلينغ البوذي، يخص ريكار "النهار" واللبنانيين بهذه المقابلة.وهنا وقائعها.    

*ما السعادة بالنسبة اليك؟ ما السلام؟

-السعادة شعور عميق من الاشراق ينبعث من عقل سليم استثنائي. انه ليس شعورا ممتعا بحت، او عاطفة متلاشية، او مزاجا، بل حالة عقلية مثلى. وتأتي عبر صقل مجموعة مهارات هي ايضا الصفات البشرية الاكثر اساسية، مثل الحب الغيري (اي المحب للغير)، الحرية الداخلية، السلام الداخلي، المرونة، وغيرها من الصفات الاخرى التي تشكل السعادة الحقيقية.

بالطبع، لا سبيل للرضى عندما يرى المرء هذا القدر من الالم في العالم. 750 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر، ملايين من النازحين، يتامى الحرب، اضطهادات ومجازر. ومهما كانت هذه الاحداث والظروف محزنة، يجب ان تزيد، في الواقع، تعاطفنا واعتبارنا للآخرين، وعزمنا على القيام بشيء ما بهذا الشأن.
كل هذا مكونات رئيسة لحياة بناءة، وبالتالي لحياة منجَزة. اضافة الى ذلك، فان الحالة العقلية الافضل المرتبطة بسعادة حقيقية تعطي المرء موارد داخلية للتعامل مع تقلبات الحياة. اذاً، حتى في ظرف مأسوي جدا، هناك وسائل مختلفة متصلة بها.  

في جوهره، الحب الغيري حالة عقلية خيرية تقوم على شعور بالاهتمام بمصير كل من هم حولنا، وتمنّي الخير لهم، يقوينا تصميمنا على العمل من اجل مصلحتهم. تقدير الآخرين هو الحالة العقلية الاكثر اساسية التي تقود الى الغيرية. عندما تصير "نمطنا الافتراضي"، فانها تعبّر عن نفسها بالاحسان تجاه من يأتون في مجال انتباهنا، وتتجسد كرغبة في العناية.

عندما تكون هناك حاجة، ونراها في الآخرين، نطوّر بسرعة اهتماما متعاطفا ينتج دافعا الى تلبية هذه الحاجة. وعندما تكون الحاجة مرتبطة بتوق الى السعادة، فان تقدير الآخرين والاحسان سيرعيان تحقيق هذا التوق. وعندما تكون الحاجة مرتبطة بالالم، فان تقدير الآخرين والتعاطف معهم سيدفعاننا الى مداواة هذا الالم ومسبباته.

السلام ليس فقط غياب الحرب او مجرد الفوز بها. انه عملية فعالة لقطع الكراهية. من الصعب جدا ان نتخيل ان تفجيرات اكثر يمكن ان تنتج كراهية اقل. الحوار هو الوسيلة الوحيدة للوصول الى حل مقبول متبادل يمكن ان يحمل الناس على القاء اسلحتهم ارضا. وبالتالي ما دامت الاسباب العميقة للاستياء المتبادل لم تؤخذ في الاعتبار ولم تُعالَج بصدق، وطالما لم تولد رغبة مشتركة في صنع السلام في عقول الناس، فالسلام لن يكون على الارجح اكثر من هدوء مؤقت في عين العاصفة. يقول غالبا الدلاي لاما: نزع السلاح الخارجي يجب ان يبدأ بشطبه داخليا، والسلام الخارجي (يجب ان يبدأ) بالسلام الداخلي".   

*هل تؤمن بان البشر قادرون على ان يكونوا سعداء، ان يعيشوا بسلام مع بعضهم البعض؟  

-نعم، الانسان قادر على ان يكون سعيدا، لان الصفات البشرية التي تجلب السعادة- الاحسان، التعاطف، الانفتاح على الآخرين، الحرية الداخلية، السلام الداخلي، المرونة، التوازن العاطفي الخ- كلها مهارات يمكن التدرب عليها. يمكن ان ندرّب ميولنا العقلية، كما نتعلم القراءة والكتابة، ونمارس الرياضة، او نعزف على آلة موسيقية. انها مجرد مسألة عزم وتصميم. فقد اظهرت بوضوح ابحاث العلوم العصبية خلال الاعوام الـ20 الماضية انه بتمرين عقلنا، يتغيّر دماغنا بطرق دائمة من خلال المرونة العصبية.

طوال قرون، امكن ايضا المتصوفين، من مختلف التقاليد الروحية، ان يحوّلوا ميولهم العقلية. ما نحتاج اليه هو تدريب عقلنا بالحافز المناسب، بالمحبة بدلا من الكراهية. نحتاج الى ان نحقق تحوّلا تجاه ثقافة اكثر حبا للآخرين واكثر تعاطفا معهم. لذلك، علينا ان نعترف باهمية الغيرية، ثم علينا ان نزرعها على مستوى فردي. وانطلاقا من هنا نحقق هذه التغييرات الثقافية. الثقافات والافراد يصقلون بعضهم بعضا في شكل متبادل. الافراد يمكن ان يتغيروا. وبالمثل يمكن الثقافات ان تتغير.


*ما الذي جعلك ما صرت عليه اليوم؟ 

-انه اللطف الغامض لاساتذتي الروحيين، وكل المعلمين الذين التقيتهم في العديد من المجالات- علماء، باحثون اجتماعيون، فلاسفة، دعاة الى محبة الناس، واناس عاديون كثر- واظهروا لي ان هذه الطيبة اكثر انتشارا مما نعتقد، وهي حاضرة كطاقة في كل كائن بشري.  

*ما الدرس الذي علمتك اياه الحياة طوال كل هذه الاعوام، ويمكن ان تشاركنا فيه؟  

-الدرس هو انه يمكن ان نتغير لنصبح بشرا افضل. غير ان علينا، كي تتغير الامور بالفعل، ان نتجرأ على "معانقة" الغيرية. ان نتجرأ على القول ان الغيرية الحقيقية موجودة، ويمكن كل واحد منا ان يحرثها، ويمكن تطور الثقافات ان تدعم انتشارها. ان نتجرأ ايضا على ان نعلمها في المدارس كأداة ثمينة تسمح للاولاد بان يدركوا قدرتهم الطبيعية على اللطف والتعاون. ان نتجرأ على التأكيد ان الاقتصاد ليس قادرا على ان يكفي نفسه بصوت العقلانية والمصالح الشخصية الصارمة، بل عليه ان يصغي ايضا الى صوت الرعاية ويجعله مسموعا. ان نتجرأ على أخذ مصير الاجيال المستقبلية جديا، وان نتجرأ على تغيير الطريقة التي يتم بها حاليا استغلال الارض، هذا الكوكب الذي سيكون موطنهم غدا. ان نتجرأ اخيرا على ان نعلن ان الغيرية ليست رفاهية، بل ضرورة.  

*نحن في منطقة تشهد قتلا وحروبا رهيبة واضطهادات متواصلة، غالبا باسم الله، باسم الدين. في رأيك، هل فشل الاديان هو الذي يجعل الانسان على ما هو عليه، ام هو فشل الانسان الذي يجعل الاديان في هذا الشكل؟

-مرة، عندما شاركت في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، قال القس ديزموند توتو الحائز جائزة نوبل للسلام، خلال لقاء بين ممثلين لديانات كبيرة: "لا اعرف اي ديانة تجيز بالقتل". عندما نطق بهذه الكلمات، شعرت بسعادة كبيرة، واقترحت ان نصدر اعلانا مشتركا واضحا حول هذه النقطة. لكن تم التملص من الامر بذريعة ان "هناك وجهات نظر متعددة حول المسألة". بالنسبة الى البوذية، لا فرق بين القتل في زمن السلم والقتل في زمن الحرب. لا يمكن بوذيا صادقا ان يفعل سوى ان يرفض ان يشارك في اعمال الحرب.

(جبال انابورنا- صورة لريكار)

بما ان كل الاديان تدّعي انها تحمل رسالة محبة، نتوقع منها ادانة صريحة وقاطعة لاعمال القتل. لكن احيانا المواقف مبهمة على الاقل، خصوصا تجاه مسألة الحرب. احد الايام، قرأ جندي اميركي مسيحي متمركز في العراق فوق باب كنيسة المعسكر: "نحن نقوم بعمل الله". بدا الامر له شاذا للغاية الى درجة انه فقد ايمانه. الامر شائع للاسف بين المسلمين والكاثوليك والبروتستانت والهندوس، وحتى البوذيين في ميانمار. لاحظ الدلاي لاما: "كل من الفريقين يقتل بعضهما بعضا. وفي هذه الاثناء، يصلّون الى الله. يجب ان يكون الله مرتبكا جدا".

من الممكن بالفعل القيام بعمل حازم ومصمم، من دون الشعور بادنى كراهية، بغية منع انسان خطير من القيام بأذى. احد الايام، سئل الدلاي لاما عن التصرف الافضل الذي يمكن القيام به عندما يدخل مجرم الغرفة ويهدد الموجودين فيها بمسدس. اجاب بجدية مرطّبة بالمزاح، وبلهجة فيها دعابة: "قد اطلق النار على رجليه لتحييده، ثم اتوجه نحوه واضرب رأسه واهتم بامره". كان يدرك ان الواقع ليس بسيطا دائما، انما ما اراد ان يعبر عنه هو ان فعلا حيويا كان كافيا، واضافة الكراهية اليه ليس عديم الجدوى فحسب، انما ايضا مضرا. اذا اجابت الكراهية بالكراهية، فإنها لن تنتهي. على المرء الا يقع في الخطأ المأسوي لهذا الجنرال الكولومبي الذي اعلن، قبل نحو 20 عاما: "احب السلام. لذلك عليّ ان ازيل كل هؤلاء الذين هم ضد السلام". هذا الشيء لن يصح.


*هل من الممكن، في رأيك، "بناء" رجالا ونساء احرارا وسعداء في هذه المنطقة، رغم اجواء العنف والحروب والكراهية السائدة؟  

-كلما كانت الظروف اكثر صعوبة، مالت المجتمعات الى العنف، مما استوجب ان نشجع اكثر بنشاط على المحبة والتعاطف. ليست تلك مجرد مثل عليا لطيفة، نموذجية، مفصولة عن الواقع. هل سمعتم يوما ان الكراهية تجلب السلام؟ علينا ان ندرك اننا جميعا كائنات بشرية، اخوة واخوات. لا يحد يفيق صباحا وهو يفكر: قد اقاسي طوال اليوم، واذا امكن طوال حياتي. لدينا امر مشترك بيننا. جميع الكائنات الحية، بمن فيها الحيوانات، لا تريد ان تتألم. لذلك، فلنعترف بهذه الامنية المشتركة، ولنعمل على ازالة كل مسببات الالم. لا يمكن ان نبقي يدا في النار ونأمل في الا تحترق. الاحسان، التسامح، التعاون، الحوار: انها الوسيلة الوحيدة.

*ما دعوة الحياة لكل منا؟  

-ان نحوّل ذواتنا لنصبح بشرا افضل، كي نخدم الآخرين في شكل افضل.

*عندما تنظر الى العالم اليوم، ماذا ترى؟ ما الذي يخيفك؟

-الفردية المفرطة، تكاثر المعلومات الخاطئة والاخبار الكاذبة التي يمكن ان تدفع الناس الى الانخراط في سلوك يضر بهم، بالعدالة الاجتماعية والبيئة. يتوجب على الناس ان يكترثوا اكثر بتقييم صادق للوضع، بحكمة اؤلئك المتعاطفين، والمعرفة التي قدمها الينا العلم.


*ما الذي يجعلك تشعر بالرضى؟  

-الواقع بان غالبية المليارات الـسبعة من البشر يتصرفون معظم الاحيان باحترام مع بعضهم البعض. يمكن ان نسمي ذلك "سجاذة الطيبة". حقيقة اننا لا نلاحظها احيانا تبيّن ايضا انها باتت هي القاعدة اكثر- ما نتوقعه من اترابنا البشر. ولهذا السبب ايضا نُصدم ونبلِّغ فورا في الاخبار عندما يتصرف الناس بطريقة بربرية. هذه الطرق الرهيبة انحرافات بشرية، وليست انعكاسا لعمق طبيعتنا.

هناك ايضا اخبار اخرى جيدة. عموما، تراجع العنف في العالم على مر القرون. في اوروبا، على سبيل المثال، كان المعدل السنوي للجريمة لكل 100 الف من السكان 100 في القرن الرابع عشر. وقد انخفض الى 10 في القرن السابع عشر، وواحد فقط حاليا. وهذا يعني 100 مرة اقل. كذلك، انخفض عدد الاشخاص تحت خط الفقر من 1,5 بليون الى 750 مليونا في القرن العشرين، بفضل الاهداف الانمائية للالفية التي اعلنتها الامم المتحدة. ومرد ذلك خصوصا الى ازدياد الديموقراطيات والتربية وتحقيق وضع افضل للنساء (مع انه يبقى الكثير للقيام به)، والتبادل بين الناس (المعرفة، الخدمات، البضائع، الخ).

(رهبان بوذيون "راقصون" في النيبال- صورة لريكار )

*ما رسالتك الى اللبنانيين خصوصا، وسكان المنطقة العربية عموما؟

-مقدر لكم ان تعيشوا جنبا الى جنب خلال الاجيال المقبلة. اذا بقيتم تثأرون من بعضكم بعضا، فكيف يمكن ان تتوقعوا حياة جيدة؟ اذا طبقتم، "العين بالعين والسن بالسن، فسيصير العالم قريبا اعمى وبلا اسنان"، على ما يقول غاندي. هل تريدون ان يبقى اولادكم واحفادكم يقتلون بعضهم بعضا؟ ارجوكم ان تقبلوا الفوارق بينكم، وتعيشوا بسلام مع بعضكم البعض. قبول الفوارق يعني انه يتوجب على كل الافرقاء ان يقبلوا ان الآخر يتمتع بمجموعة خاصة من المعتقدات، وان يتخلوا، من اجل السلام، عن فكرة الزام الآخر بتبني معتقداتهم الشخصية. هذا الامر لن يحصل ابدا. فلماذا محاولة تحقيق ذلك على حساب الكثير من المعاناة؟ كونوا منطقيين، منفتحي العقل، واشخاصا جيدين، يتمتعون بالحب والتعاطف. انها الطريق الوحيدة الى السعادة.

(*)www.matthieuricard.org

[email protected]

Twitter: @HalaHomsi


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم