دار المشايخ في القلمون... معاني رمضان أيضاً وأيضاً

أن تقام صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك، فذلك أمر بديهي، وعادي في حياة المؤمنين، لكن لصلاة التراويح أريج خاص في بيت محمد رشيد رضا- المصلح والمفكر الإسلامي الذي واكب حركة التحديث في العالم العربي، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكان من رواد النهضة إلى جانب الكواكبي، وحسن البنا، ومصطفى السباعي وسواهم. 

يؤم المصلون الجامع الذي شيّده آل رضا في القلمون، عند شاطئ البحر، واتخذ رضا من سطحه مقراً لإقامته، ودراسته، وبحوثه، وضيافة زملاء له من محاوريه، ومريديه.

حول الجامع، يقوم منزل آل رضا الذي عرف ثراء وغنى لافتين، وكان مقصد الزوار من كل حدب وصوب، يؤمه كبار الشخصيات المدنية والدينية، ويقع على حافة الطريق الدولي السابق الذي يعبر بلدة القلمون، أربعة كيلومترات جنوبي طرابلس.

بناء تراثي، أنيق، تشير تشكيلاته الخارجية من نوافذ، وطاقات، وكورنيش يحوط السطح، إلى أنه بيت مجد غابر. وعلى مقربة من البناء، ترتفع مئذنة حديثة الطابع، كثيرة الارتفاع، تدل على وجود مسجد القلمون التاريخي. المكان شاده جد رضا، وهو ولد وترعرع وكبر فيها قبل سفره إلى مصر.

مدخل المنزل حجر تقفله بوابة حديد، حجارته على شكل الزنبقة، تعلوه لوحة عليها أبيات شعر تحكي قصة بناء الدار، وتشير إلى أنه شيد سنة ١٢٣٢ هجرية.

الجامع والدار متلاصقان، يكمل كل منهما الآخر. ومن الواضح بعد جولات فيهما، أن يكونا مبنى واحدا. المئذنة الأساسية كانت من الحجر، ومنخفضة، وأزيلت في عملية توسيع المسجد، وزرعت المئذنة الحديثة في قاعدتها المنغرزة في قلب العقد الحجر السميك للمسجد.

الدار

الدار طبقتان، يمكن الدخول إليها من بوابة حديد حديثة متآكلة، تفضي إلى فسحة الدار التي تتوزع المقاسم عليها. لها سلم صغير يفضي إلى سطح المسجد، ثم أحد المقاسم المتحولة منزلاً لأحد الورثة، فسلم حجر طويل يفضي إلى الطبقة العليا التي تعلوها لائحة كتب عليها: "رابطة آل البيت".

يذكر سكان البيت الحاليون أن الطبقة العليا كانت بيت النساء، وتطل شرفتها على الدار حيث كان يجري تعليم العلوم الدينية والمدنية.

تتوزع الطبقة العليا على عدة غرف مقفلة، حول شرفة واسعة، وفيها عتبات بحجارة مزركشة، وفتحات تهوئة بأشكال فنية زخرفية. وحجارة البناء كلها من الحجر المصقول.

في الطبقة السفلى، اتخذ الشيخ رضا غرفة كمكتبة للإقامة، والحياة اليومية، وكانت الردهات المطلة على البحر القريب تزوده بهواء عليل لا يتوقف صيفاً، وجدران سميكة دفيئة شتاء، يقضي فيها الأوقات العادية مع أبناء العائلة.

الجامع

يشكل الجامع جزءاً من المبنى قبل توسعته. مدخله الأساسي واضح حيث يتكون من قنطرة واسعة على مدى جداره. لكنه مقفل بعد التوسعة، فأصبح المدخل من الجهة الشمالية الغربية.

قبالة المدخل الأساسي فتحتان تغطيان السلم الذي كان ينزل المصلون منه إلى نبع مياه باردة للوضوء والتروي. وككل المساجد، له صالة صلاة واسعة، وعلى جانب منها الجامع القديم المتميز عن الجديد بوضوح، وبطريقة البناء.

بيت رضا

على مسافة تناهز المئة وخمسين متراً شمال الجامع، يقوم منزل آل رضا. وفي الوسط، ساحة واسعة من الردم الحديث. والمنزل طبقة واحدة في جزء منه وطبقتان في جزء آخر، ويرجح أن تكون الثانية قد بنيت في وقت أحدث. وهو من الحجارة وخشب فتحاته مشغول بإتقان، وله طاقات مزخرفة، وعتبات محفرة بحرفية على شكل زهور أحيانا، أو تقاطعات ذٰات تشكيل أرابيسك أحيانا أخرى، وتغطى أبوابه بخشب محفور، ومنقوش في آن. شبابيكه تطل على البحر الذي كان تحتها مباشرة، وسقوف الشبابيك مغطاة بالخشب المشغول والمحفور بطرق جميلة ومختلفة في كل شباك. والفتحات في داخله تحفها براويز من الخشب المزركش بدقة وحرفية. إنه تشكيل لمنزل مرجعي، وليس لمنزل عادي.

يعرف عن المكان أنه كان مقصد المرجعيات السياسية والقيادية في البلد، يسكنه حالياً علي ابن شقيقة الشيخ رشيد رضا. هو آخر حبات العقد المتصلة برضا، محام نال شهادته من مصر في خمسينات القرن الماضي، وعمل موظفا في دوائر العدل شمالا. بقي عازبا، يسكن المنزل وحيدا، وفي قاعة المنزل الرئيسية مكتبة تضم أعمال ومؤلفات رضا، وكل نسخ "المنار" في إطار مجلد. يقول علي عنها إنها مكتبة والده، بينما مكتبة الشيخ رضا فكانت في مصر، وبيعت بعد وفاته.

في هذه الدار ولد الشيخ رشيد رضا عام ١٨٦٥، ثم انتقل للسكن في بيت رضا الثاني الذي بناه والده، وكان مسكن العائلة، ثم سافر إلى مصر ١٨٩٨، وأسس جريدة "المنار".

المنزل يكاد يكون مهجورا رغم مكانته الاجتماعية والسياسية والدينية، يحكي قصة مجد غابر، ويعيد رمضان الكريم له بعض رونقه عندما تحين ساعة الغروب، وتقام صلاة العشاء في المسجد القريب، ثم صلاة التراويح ليتكرس للموقع روحيته الدينية السابقة.