الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"ونَصيبي من الغالية" لمَجيد شَرْفي: رسمٌ أخَّاذٌ لمعركة المهاجرين الشرسة

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
"ونَصيبي من الغالية" لمَجيد شَرْفي: رسمٌ أخَّاذٌ لمعركة المهاجرين الشرسة
"ونَصيبي من الغالية" لمَجيد شَرْفي: رسمٌ أخَّاذٌ لمعركة المهاجرين الشرسة
A+ A-

في هذه السيرة الذاتية، وقد تضمَّخَت لوحاتُها بالواقعية الضارية، وتنامت صورها على إيقاع الضَّواحي الفرنسية الصاخب، يَروي الكاتب، وهو شاعرٌ ومغنٍّ اشتهر بتأسيسه مجموعةَ "زبدة"، قِصَّةَ نجاحه في نيل شهادة الباكالوريا، حين كان شابًا يانعًا، يعيش في بؤس الضواحي الشمالية لمدينة تولوز. وبِعَيْنَيْ سليلِ أبوَيْن مهاجريْن، من جبال الجزائر الوعرة، وقد سَحقه التهميش وتوالت عَليه هزائم السخرية، في لذعتها الجنسية، فضلاً عن وضعه الوجودي كمستعمَر سابق، عاش ألواناً من الإقصاء والاحتقار، قبل أن يرفع التحدي وينال حَظَّه من الغالية، شارَةِ التحضر والارتقاء. ولا تعدو هذه الشهادة، بالنسبة لأبناء الفرنسيين الخُلَّص، من أبناء الجِنس الغاليي، مجردَ إجراءٍ شكلي، لا عناءَ فيه ولا مكابدة، وهم الذين تربوا على ارتِضاع لغة موليار، منذ النشأة الأولى، وإنمائها بما طالعوا من أمهات الأدب الفرنسي وعيون جمالياته الخالدة، في مهدِ والداتٍ ثريات أنيقات، أو في أروقة مكتبات فاخرة. وأما بالنسبة إليه، ابن امرأةٍ مهاجرة من جبال القبائل، ليس لها من الفرنسية إلا أمشاج التواصل اليومي، وما تسمع في الضواحي من فظاعاتٍ وفحش وقَلْبٍ للأحرف، أن ينالَ هذه الشهادة فهو حَدَث الأحداث، بل زلزال يَهزُّ حَياتَه وأسرته وَحَيَّه، بمن فيه من الرفاق العاطلين، والأقارب الشامتين، الذين يربطون بين إتقان اللغة الفرنسية والمِثليَّة الجنسية. ولكسر هذه الأطواق الأليمة، كافح حتى يكون أول "عربي"، يظفر بهذه الشهادة الفاخرة، فكان فوزه تتويجاً لمسيرة ومُجاهدة، كأنما كان يغالب الأقدار وهي تتأبى ويصارع الحودِاثَ وهي تمانع. وتم له الظفر الملحمي، وما تمَّ له لولا تشجيع لا يَني، من أمه العطوف التي ما انقطعت يوما عن دفعه، كأنما تغسلُ عارًا أو تثأر لتهجيرها. تلتحق بزوجٍ لا يعبأ بها ولا يفي بوعوده.

كتاب تتالت صفحاته في سخرية من الذات لاذعة، روى في أثنائها حرجَ هذه الأوقات العصيبة، حين تتعارك مكونات الهوية وتتداعى أطرافها المتباعدة، لا فرنسية ولا عربية، أمام نظرات الجمهورية العاجزة بسبب تمايلها ذات اليمين وذات اليَسَار، تراوح ما بين برامج أحزابها السياسية وشعاراتها عن دمج هؤلاء الشباب الذين إنْ نَجَحوا عُدُّوا من المثقفين، أصداء للبورجوازية البائدة، وإن فَشِلوا رُموا بتهمة اليسارية (الفوضوية) وما توحي به من عنف النضال. ولا يزال التطلع دَيْدَنه وحب الأدب شأنه حتى نبغ مثل أيّ فرنسي قُحٍ، يقول: "كنتُ طريحَ الأرض، ولكنْ مفتخرًا بـأنني كنت أنا أنا، أعلن حبِّي للآداب في وَضح النهار، أحسست بالنشاط، أسعى مُتحررًا من النفاق والمواربة. وأخيرًا، سأنْجَح، وينجحُ معي صَديقان أو ثلاثة، وكلهم للآداب عاشقٌ، وسيتحقق النجاح دون أدنى مداهنة..."، هكذا تسيل جملُ الرواية في انسيابٍ ساحر، كيف لا وصاحبها متأثر في طفولته بكتاب "مدام بوفاري" وبسائر مؤلفات فيلسوف الوجودية جون بول سارتر.

"ونصيبي من الغاليية"، رسمٌ أخَّاذٌ لهذه المعركة الشرسة التي يخوضها أبناء المهاجرين، حتى تتقبلهم دواليب الجمهورية، إن تتطابقت هوياتهم مع القالب الذي تقترحه، صمن صقل جارف، يجري على ماضيهم والذاكرة، وحين تسعى ماكينات الدولة إلى صهر الجميع في قلب رجلٍ واحدٍ ينشد: "الغالييون Gaulois أجدادي وأسلافي". أسلوبٌ جمالي ينقد استبداد القالب الواحد، ودعوى الانتماء إلى سلفٍ غابر. مجموعة "زبدة"، وهو من كتابها، تنتقد في أهازيجها عنف الضواحي الفرنسية، ومعاناة أبناء (وأبناء أبناء) المهاجرين فيها، وهم الذين لا تَسعهم براعة سياسات الإدماج، ويظل الفن الملتزم بقضايا السياسة ذاكرة أخرى تغذي الأصول والجذورَ، وما اشدَّ تنوعها وأبعد تَراميها.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم