الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

الجمال سينقذ العالم

أنطوان الدويهي
الجمال سينقذ العالم
الجمال سينقذ العالم
A+ A-

عقدت في المسرح البلدي في زغرتا، في 2 حزيران 2017، طاولة مستديرة حول الفنان اللبناني الكبير صليبا الدويهي، بمشاركة سيزار نمّور، ابرهيم زود، عيسى مخلوف، محسن أ. يمّين، وأنطوان الدويهي. ينشر "موقع النهار" مداخلة الباحث والكاتب أنطوان الدويهي. 


تكلّمت، قبل اليوم، وكتبت عن صليبا الدويهي "رسّام الشرق الأول". وعن صليبا الدويهي، الذي يختصر، في مسيرته الطويلة، قرناً كاملاً من الرسم اللبناني، من الكلاسيكية، إلى الانطباعية (التي كان يسمّيها الرومنطيقية، لغلبة الطبيعة والمشاعر الذاتيّة عليها)، الى المرحلة الانتقالية نحو التجريد، إلى التجريد التّام والحروفيّة، مروراً بالرسم الديني، في لبنان وأميركا، من جدرانيات وزجاجيات، الذي له مكانة خاصة في عوالمه. مع الاشارة إلى أن هذا الانتقال من طراز إلى آخر لم يُخرِج الدويهي يوماً من رؤيته الواحدة، وهنا تكمن أهميّته. كان يحمل هذه الرؤية ويسير بها نحو غاية واحدة أيضاً: الاختصار في التعبير، الذي وصل إليه أخيراً مع التجريد والحروفية. علماً بأن حروفيته، وهنا فرادتها، تندرج بالكامل في التجريد، إن بحرفها السرياني أو بحرفها الكوفي، وهما متقاربان. كان يعي تماماً هاجس الاختصار الذي يقوده، وكان يردّد على الدوام عبارة المتصوّف العربي النفّري: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".

أمّا في افتتاح هذا اللقاء، فأوّد الكلام عن "صليبا الدويهي الإهدني". الدويهي، المسكون الى الأبد بطبيعة إهدن، ووادي قاديشا، وجبل لبنان، ومشهدياتها. يمكن التوقّف طويلاّ عند ذلك، مّما لا يتّسع له هذا الافتتاح. سأكتفي فقط ببعض الاشارات.

لا بدّ من القول، أولاً، إنه لولا صليبا الدويهي الإهدني، المسكون بطبيعة واديه وجبله، لما كان من صليبا الدويهي المشرقي، ولا من صليبا الدويهي العالمي. قيمة الدويهي في أصالته، وأنه، من خلال التعبير عن ذاته، الغنيّة، الوسيعة، استطاع الوصول، في أعماله، الى التعبير عن روح شعبه وعن روح أرضه. هنا تكمن أهميته. هذا التداخل لديه، بين الذات الفردية والذات الجماعية وروح الأرض، يأتي في صورة طبيعية، تلقائية، شبه غير واعية. المبدع الخلاق يكون هكذا، من دون ان يقصد ان يكون. هذا هو سرّ الابداع.

ثم إنّ صليبا، مثله مثل جبران، أحدهما جهة قزحيا والآخر جهة قنّوبين، ذهب بعيداً في حمله الطبيعة اللبنانية داخل نفسه. ثمّة أمر لافت عند هذين الشخصين لم يلحظه أحد. وأنا خصّصت له، قبل سنين، مقالة طويلة بالفرنسية، نشرتها الـ"أوريان ليتيرير". مع أن جبران وصليبا أمضيا عمرهما في الغرب، في الولايات المتحدة الأميركية أساساً، مع إقامة أحدهما في فرنسا والآخر في فرنسا وبريطانيا، فإننا لا نجد شيئاً من طبيعة الغرب ومشهدياته في أعمالهما قطّ. وهو أمرٌ غريب. لا شيء في رسوم صليبا الدويهي، ولا في أدب جبران خليل جبران ورسومه، إلا طبيعة وحيدة واحدة: وادي قاديشا وجبل لبنان. كأنّهما أدخلا هذا الجبل إلى نفسيهما، وأغلقا الباب والنوافذ. ما عادا شاهدا أي شيء آخر، على مدى عمرهما. كأنه بالنسبة إليهما، الطبيعة الوحيدة التي تستحق دخول عالم الأدب وعالم الفن، هي الطبيعة اللبنانية. تحتمل هذه الظاهرة، هنا أيضاً، الكثير من التحليل، لكن الوقت لا يسمح. وتمكن العودة إلى مقالتي المشار إليها أعلاه.

صليبا الدويهي الإهدني أيضاً، لأنه بقدر ما يجسّد الإنسان شخصه الفردي وشخص مجتمعه معاً، لم يتجسّد المجتمع الإهدني في الفن، على مدى تاريخه الطويل، قبل صليبا الدويهي. تجسّدت هذه الجماعة في الروحانية، بشكل خاص، مع البطريرك أسطفان الدويهي. وتجسّدت في التقاليد الحربية والوطنية اللبنانية، بشكل خاص، مع يوسف بك كرم. وتجسّدت في حركة التفاعل الثقافي بين الشرق والغرب، بشكل خاص، مع جبرائيل الصهيوني. وأنا أقول "بشكل خاص"، لأن هناك الكثير من الوجوه المضيئة في هذه الميادين، وانا اكتفيت بذكر الوجوه الثلاثة الأكبر. لكن الفن بقي غائباً. إلى أن ولد صليبا في إهدن، في بيت متواضع، في ظل كنيسة مار بطرس وبولس، ليلة عيد الصليب، في أيلول سنة 1909. وكان مقدّراً لهذا الطفل أن يجسّد الجماعة الإهدنية في الفن.

رُبَّ سائل: ما أهمية الفن؟ وما أهمية الإبداع الأدبي، والتصويري، والموسيقي ، والهندسي، وغيرها، في نهاية المطاف؟ لن أجيب عن السؤال. بل سأدع شخصين آخرين يجيبان. كلود ليفي- ستروس، الفرنسي، كبير علماء الأنتروبولوجيا الثقافية في القرن العشرين، وفيدور دوستويفسكي، الروائي الروسي الكبير. بعدما عاش ليفي- ستروس مئة عام، ودرس قدراً كبيراً من الثقافات والحضارات في العالم، وقارن بينها، وصل آخر الأمر، في خاتمة كتابه الأخير، "النظر، الإصغاء، القراءة"، إلى الاستنتاج الآتي، وهو بمثابة وصيّته: "حين ننظر بمقياس الآف السنين، لا يعود في الإمكان تمييز الأهواء والشهوات البشرية بعضها عن بعض. فالزمن لا يضيف - أو ينقص- شيئاً إلى نزعات الحب والبغض التي تنتاب البشر، ولا إلى التزاماتهم، وصراعاتهم، وآمالهم : فالأمس واليوم هما واحدٌ على الدوام". ثم لا يتردّد في الاضافة: "وإذا حذفنا، عشوائياً، بضعة قرون من التاريخ، فذلك لن يؤثّر، بشكلٍ ملموس، على معرفتنا بالطبيعة البشرية. الخسارة الوحيدة التي لا تُعَوّض، هي خسارة الأعمال الفنيّة التي احتوتها تلك القرون".

في الحقيقة، ماذا بقي، على سبيل المثل، من الحضارة الفرعونية، وما تخللها من أحداث، وطموحات، وفتوحات، وأمجاد؟ لم يبقَ إلا شيء واحد: الأهرام. بقي الفن، فن العمارة. وإذا نظرنا، على سبيل المثل ايضاً، إلى الف عام من القرون الوسطى الأوروبية، فما الذي بقي من كل صراعاتها، وحروبها الداخلية، والصليبية، وملوكها وامرائها؟ بقيتِ الكاتدرائيات القوطية وزجاجياتها والألحان الغريغورية. بقي الفن، فن العمارة، وفن الرسم، وفن الموسيقى. وإذا، على مستوانا المحلّي الضيّق، زارني في زغرتا زائر، فماذا أريه؟ أريه شخصياّ شيئين: كنيسة سيدة زغرتا الأثرية (من الفن المعماري)، وجدرانيات صليبا الدويهي في كنيسة مار يوحنا المعمدان (من فن الرسم). هذا تقريباً كل شيء.

ويقول دوستويفسكي: "هو الجمال الذي سينقذ العالم". ترى كيف الجمال سينقذ العالم، ولا سلطة لديه، ولا نفوذ، ولا سلاح، ولا مال؟ أجل، عندما يرتقي البشر، الأفراد والشعوب والقادة والحكّام، إلى مستوى إدراك الجماليات، وإلى مستوى عيش الشعور الجمالي، وهو أرفع المشاعر وأرقاها، فلن يعود هناك من عنف وحروب وتشويه للطبيعة وتلويث وظلم وفساد.

أجل، الجمال سينقذ العالم. الحلاّج، وليس الحجّاج، سينقذ العالم. صليبا الدويهي، وأمثاله من أهل الابداع الكبير، سينقذون العالم.











حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم