السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

فروغ فرخزاد يُحاورها أسعد الجبوري في "بريد السماء الافتراضي" أنا إمرأةُ الاحتراق المتباطئ ولا أزال أحتفظ بنيران الآخرين

أسعد الجبوري
فروغ فرخزاد يُحاورها أسعد الجبوري في "بريد السماء الافتراضي" أنا إمرأةُ الاحتراق المتباطئ ولا أزال أحتفظ بنيران الآخرين
فروغ فرخزاد يُحاورها أسعد الجبوري في "بريد السماء الافتراضي" أنا إمرأةُ الاحتراق المتباطئ ولا أزال أحتفظ بنيران الآخرين
A+ A-

كان ذلك الهدهد يطير فوق جسدها الممدَّد على الأريكة الزجاجية، حيث تتخذ مكانها بالقرب من نهر الأغاني المتدفق بين سهول تملأها زهور عبّاد الشمس وتماثيل رمادية الفراء لذئاب تجلس على كراس من الحجر. كان المشهد غريباً حدّ الدهشة، ومثيراً للريبة في الوقت نفسه. فما علاقة ذلك الطير بالمرأة المضطجعة، أو بفوج الذئاب المستغرقة بالنوم على كراسيّ الحجر؟ لم يستمر الانتظار طويلاً، حتى تحركت الشاعرة فروغ فرخزاد بتنورتها الـميني جوب، مقتربةً من تلك الذئاب، لتجلس بينها وبين زهور عبّاد الشمس، وتقرأ قصائد من كتاب بنفسجي كان في يدها. آنذاك تقدمنا من الشاعرة فروغ فرخزاد سائلين: 

■ ما الذي حدث لتكوني هنا في مملكة تماثيل الذئاب؟

- يا له من سؤال جميل. لقد وجدتُ هنا من أجل عزاء نفسي، وتفريغها من حمولات الرجال فقط. ربما العيش مع الذئاب أفضل من السكن مع سواها من مخلوقات الأنس.

■ ربما من الأفضل نسيان الماضي يا سيدة فروغ. لكن، أليست الحياة على الأرض شبيهة بنهر موسيقي تتردد أصداء مياهه في حقول الأرواح؟

- لا أظن. كان وجه الحياة مليئاً بالبثور هناك. وكلّ ألمٍ يتحول إلى مشاجرة مع جسد صاحبه. علماً بأننا كنا نبتسم بعرض الفم وطوله، إلا أن القَدَم كلما تقدمت خطوةً، وقعَت في فخ لالتهام المشي منها...

■ التعليق على الأسئلة بهذه الطريقة السوداوية الهازئة، هل هو إصرارٌ على التمتع بإجازة في العدم على سبيل المثل؟

- العدمُ تهويلٌ فلسفي مضادّ للهلع الرومنطيقي الذي أصابني به القدر، ولا مكان له في رأسي. لكنني أشعر بحاجتي إلى النوم أطول فأطول فأطول. تعبي لا يقاس. وفي نعاسي أصبحت النباتاتُ أشجاراً.

■ هل للشعر فوائد بالنوم، لذا وجدتِ ما يمكن أن نطلق عليه نقاهة الموت؟!

- أعتبرُ الموتَ بمثابة حمّام ترابي موازٍ للحمّامات الشمسية التي عادة ما يأخذها "البلاجيون" على الشواطئ. هم مع المياه. ونحن مع التراب. كلٌّ منا يسبح في المساحة المخصصة له .

■ لكنكِ خارج منطقة التراب القديم. فأنتِ هنا في السموات. خارج الاضطهاد والتعذيب وخزائن الملابس التي تُعلّق فيها الحريم أجسادهنّ مع الثياب !

- قد أكون حنبلية في تصرفاتي، أو أدّخر بعض المازوشية في نفسي المضطربة. لذلك تراني أواظب على الاستمرار في هذا النهج خدمةً لأهداف تتعلق بالشعر وحقوله الحمراء .

■ تقصدين حتى انبعاث الدخان من القصائد أم حتى طلوع البرق من الروح؟!

- أنا امرأةُ الاحتراق المتباطئ. لا أزال أحتفظ بنيران الآخرين الكامنة في حواسي العميقة. كلما حاولتُ إطفاءها، اشتعلت من تلقاء نفسها بشكل ميكانيكي لا أعرف له سبباً.

■ هل تعتبرين الغرامَ شجراً يتخشب، ويقبل الاحتراق بنفسه، كلما وجد الحاجة إلى ذلك، سواءً ندماً على فشل ما لحق بالقلب، أم افتراساً لقطعة ما من جغرافيا الذكريات؟

- الحبُّ مثل سخّانة الحمّام، لا يمكن التلذذ بمياهه إلا في حال واحدة: أن تكون عارياً. هكذا هو الغرام عندي: قائمة طويلة من العطور ومن الذكريات الحميمة. بل وهو في حالات التجلي القصوى، يصبح بعطره مثل رائحة السمك المدَخّن، تلك التي لا تختفي إلا بشق الأنفس .

■ كأن الغرام هو الإرث الوحيد الذي يتبقى من الشاعر. ألا تعتقدين بمرارة تلك الصورة أو الفكرة؟

- هذا هو الأكيد. لم يكن الحبّ حبة بطاطس، يمكن المرء التهامها مسلوقة أو مقلية أو مشوية، ثم ينتهي الأمر مع وجبة الطعام اليومي وإقفال المطعم. ثمة شغف لا يصنع حياةً بالمطلق، بل يقترب بالمشغوف خطوةً خطوةً نحو الحوض الأعظم لتلك النار المجازية. فجهنميات العاشقين هي الحبل السرّي الذي يربط حركة التاريخ بوجود أولئك الفرسان وحدهم.

■ كم امرأة تسكن جسدكِ، يا فروغ فرخزاد؟

- امرأة واحدة لا غير. أنا. أما ما تفيض به نفسي فهو بارودٌ للزينة.

■ أليس هذا تطرفاً من شاعرةٍ، فتحتْ في الورق ألفَ نافذةٍ لقرائها من النساء، ثم تأتي لتتبجح بمقولةٍ أنانيةٍ مثل هذه؟!

- كان على النساء أن لا يقلدنّ فروغ ويبقين مخدرات تحت الحجب والشراشف. كنت في كل لحظة من حياتي منقل نار ورماد. إلا أنني عادة ما أخرج من هناك كالعنقاء. مع ذلك يأتي رجال القبائل وعلمانيو الرمال وخفافيش الظلام لختم ظهري بعبارة: أنتِ من جنس الحريم. ولا يكون عليَّ إلا الرضوخ لمشيئة تلك المكواة المسخّنة. إلا أني، وعلى الرغم من ذلك الاشتعال المشترك بين ثيابي وجلدي، انتصرتُ للشعر كمركبٍ استطاع أن يشق المياه الساكنة في المجتمعات السلفية الموضوعة في برواز الحضارة .

■ هل بسبب ذلك التمرد المتصاعد، أطلقتِ على أول كتاب لك في الشعر عنوان "أسير". كيف يدخل أحدٌ الشعرَ بحقوله الشاسعة، فيما هو أسير؟!

- لا أظن أنني ارتكبتُ غلطةً باختيار ذلك العنوان. فأنا بدأت الحياة أسيرةً تعيش في دولاب ضيق برفوفٍ لحفظ الملابس والتقاليد والسيوف المتغذية بمنهج الدفاع عن شرف العائلة.

■ أهو مجرد إحساس بضيق التنفس من المكان، أم ثمة شيء منكِ، وقع أسيراً في يد العدو بالضبط؟

- خزائن البيوت، لا تضم الثياب والمجوهرات والأحذية، بل تحتوي رفوفُها وجيوبُها الأحاسيس والمشاعر والأسرار الحارة التي عادة ما تفسد، حال خروجها من وراء تلك الأبواب. لذلك تستطيع أنتَ أن تعتبر أني وجدت لي قلباً ضالاً أو أسيراً في خزانة بيت الزوجية، أو ما يُسمّى بالعدو التقليدي للمرأة في الشرق، وخصوصاً في حال وجود قفل حديدي ضخم مكبَّل.

■ هذا نمطٌ رسمي من حكي النساء جميعاً. فما إن تبدأ الثلوج بالتساقط على الأجساد، وتملأ الحواسّ، حتى تبدأ نزعةُ التحرر لديهنّ، وتتسرّب ألسنة النيران من كلِّ حدبٍ وصوب.

- لا أريد التحدث عن الأخريات بشكل عام. لكنني سرعان ما وجدتُ جسدي في محل للرهونات. لم استسغ الوضع، وانفجرت تأملاً بالعالم، وانفتاحاً بالذات على المناطق الواقعة في ما وراء الحجاب والإرث والرجال المحمودين من قبل القبائل ووسائل الضغط الاجتماعي التي وجدت فينا ظاهرةً منافية للدين وانحرافاً عن الصراط المستقيم، تقاليد وثقافة. المرأة بقرةٌ، متى ما انتُهكت صفتها تصبح شريرة ومن علامات يوم القيامة. لذلك لا بد من التأديب والاعتقال والمحو .

■ هل كان شعوراً منكِ برفض العزلة أو الإقامة الجبرية، أم أن فيضان الشعر كان أعلى واعنف من قوة السفينة وحجمها؟

- لقد استولى الشعر على السفينة، وحملّها مخلوقاته، ومن كل نوع أربعة.

■ هل الحبّ نظامٌ يمكن خلخلته؟

- الحبّ نظام إلهي يعتمد على القضاء والقدر. وربما لا يُستَعْمل مرةً واحدةً فقط، مثله مثل الموت الذي يمر بمراحل عدة من المرض والجنون والغيبوبة، ثم يأتي الخراب الإكلينيكي الذي يدفع بعربة الموتى إلى الخوض برحلة ما وراء الأرض.

■ مذهب الوجودية في شعركِ، يتعلق بالشهوة كنواة تدور عليها رحى الطاحون بشقيها الذكوري الأنثوي. أليس ذلك كان عملاً باهظاً لكتابة شعر على المنوال الغرامي في المساحة الإسلامية؟

- ما دام الطاحون لا يستطيع العمل بقطعة واحدة من الرحى الاثنتين، فإن من حق آلة طحنِ الأجساد المشتركة، أن تنال جوائز الدولة التقديرية، لا التوبيخ الأعمى من رموز الإرهاب الفكري، ممن يعتقدون أن الربّ الذي خلق الشهوة الأعظم للوجود والموجودات، قد كَلّفَ البعض أن يرموا بها في صندوق القمامة بقرار استباحي.

■ ثمة من يلاحظ أن أمتعة الشهوات عندك زائدة على الوزن المسموح به دينياً، لذا يحتاج إلى تدخل من شرطة الآداب. ما رأيك؟

 - أنا لا أعرف كيف تكون للشعوب على الأرض شرطةٌ للآداب، فيما لا وجود لشرطي في السموات؟!

■ في جلّ ما كتبتِ من شعر، تركتِ الشهوةَ هي السنترال الذي يقوم بالتحكم في اتصالات شبكة الحواسّ، وامتلاك القدرة الكافية على توزيع الكلمات على النصوص، وفقاً لدرجة حرارة لغة العين المتشابكة الأسلاك. ما مدى صحة قول كهذا؟

- كلّ هذا الكلام بديعٌ. فالشاعر ليس سوى مدير تنفيذي لمختلف الانقلابات التي تحدث في الحواسّ، وقبيل أن تدفع بكائناتها الحيّة والمختلفة في مجرى اللغة. أنا لم أكن امرأة حديدية مثل مارغريت تاتشر التي سبق لي أن صادفتها قبل أيام هنا في دكان لبيع المسامير والبراغي. أنا وجدتُ نفسي في حوض الحبّ بمائه ورماده وناره وأنينه، ولن أبقى بعيدة عنه، حتى لو تحولتُ إلى أنقاض مشتتة بين العواصف.

■ هل تكمن بطولةُ الشاعر في صناديق ذكرياته؟

- أجل. وطالما الذكرياتُ لا تترك الشاعرَ سيّدَ نفسه.

■ ألا تظنين أن شعركِ العاري، يحمل معه الكثير من عوامل الاستفزاز للكائنات المتطبعة بالتستر والحجاب والمحافظة المتجلية بالتعايش القسري مع جميع أنواع المكبوتات؟

- لا أعتقد أن في شعري إعلانات "بورنو" تفرض القطع أو الشطب أو الممانعة من قبل شيوخ دين، فتحوا لأنفسهم مختلف أبواب المتعة بالجماع. لقد خصصوا لأجسادهم التخوت الدينية والشراشف الدينية والحمّامات الدينية والحلوى الدينية. كل ذلك بات يجري، ليس مع مخلوقات قادمة من فضاءات بعيدة، بل مع النساء اللائي يبنون حولهنّ الأسوار ويحرسونهنّ بالجندرمة والأساطيل ويرجمونهنّ بالحجارة حتى الموت. أين الرجل القادر على شطب المرأة من حياته؟ أي أين الرجل القادر على انتزاع شهواته الزلال، ورمي عضوه التناسلي في تنكة الزبالة؟

■ هل كنتِ مخلصةً لجسدكِ أكثر من إخلاصكِ للنصّ؟

- كلاهما من نطفة واحدة: الغرام. فالجسد عادة ما يكون سبورة النصّ الميّال للتخريب وإحداث الزلازل في المناطق الخاملة. لم أذهب إلى الغرام يوماً بتلك المشية العسكرية وسط أصوات جوقات من الفرق النحاسية، بل ذهبت إلى طقوسه طائرةً، كما البخار المتصاعد من طنجرة ضغط.

■ كل ذلك من أجل أن تكوني طعاماً للرجل؟

- أجل. كلّ ذلك من أجل أن يكون الرجل لي وجبةً فاخرة من الأطعمة المقلدة عن مأكولات الجنة. كل من تقول لك غير ذلك، لا تتمتع بالقدر الكافي من الأنوثة راعية الخيول في إسطبلات الرجال.

■ كيف تضعين الرجالَ في موقع كهذا الذي تشير إليه قواميس العربية بـ"حظيرة الخيل أو مأوى الدواب"؟ أيصح ذلك في حق أصحاب اللحى والشوارب؟!

- لا غلط في الوصف الذي طرحته. أنا سميتُ الرجالَ بالخيول مبالغةً، على الرغم من أن الأغلبية العظمى منهم، لا يشبهون إلا ديوكاً ترَبَّتْ على خدمات الدجاج. أنا فتحت في الرجال أقفاصهم التي أنتجت الأنانية وقامت بتربيتها مع المدائح والغدر والاستبداد والخنثويات والعواطف المفرَغة من كل جملة مفيدة. فبعض الرجال يتعذر وصولهم إلى النساء، وهم بين طبقات تلك اللحوم الباردة، بعدما فقدوا أدوات الاشتعال لطرد البرد أو قشط الثلوج من الأجساد المستلقية إلى جانبهم في الأسرّة. هنا تصبح الفروسية بالوناً ممتلئاً بالفقاعات، ويكون الحصان من أخوات الأرنب.

■ وبسبب ذلك كان رفضكِ طاعة نظام المتعة الجنسية من طرف واحد؟

- في جسد كل امرأة مجموعةٌ من الآلاتٍ الموسيقية، سرعان ما تتحطم أو تصاب بالخرس، فيما لو لم يتم لها التناغم الأوبرالي مع الآخر. ليس للجسد غير نظرية واحدة: الجنس. ومنها تتفرع بقية النظريات التي تخوّل العقل، لأن يتبنى الشرح والتأويل والتصوير والغطرسة، حتى بالتفلسف عن إمكان تحول النسر إلى بائع متجول لبضائع فضائية .الجنس، ومنذ بدء الخليقة، لم يكن بمثابة ضمير الغائب أو الغائبة. هنا في الآخرة، سيُسأل الإنسان عن تاريخه الجنسي في تعمير الخلق وأعمار الخليقة. فصومعة الناسك لم تكن خياراً إلهياً قط، لأنها غرفة إعدام لبذرة التناسل، وهذا لم يأتِ بكتاب سماوي كما أجزم.

■ ثمة من يجزم أن جسدكِ سيكون حطباً لجهنم. ولكن ليس قبل أن يجفّ جذعك، فيصبح صالحاً للاحتراق. ما رأيكِ؟

- يبدو أن هؤلاء من المصابين بالجذام في الفيلم الذي أخرجتُه تحت عنوان "البيت أسود" (The House is Black) وسأقوم بتصوير أجزاء أجسامهم المتطايرة حال وصولهم إلى هنا. ففي هذه السموات الشاسعة، لا وجود لمحرقة تخصّ العاشقين من أهل الغرام. هنا المحب يُكرَّم. وهنا أسهمُ العاشق أعلى وأقوى العباد إيماناً في لوحة الخلود. أما حب الترانزيت الذي كان موجوداً على الأرض والصحارى هناك، فهو مستهجنٌ وغير متوفر في طبعة السموات الخاصة بعالم الأحياء.

■ يُنشر كاملاً على الموقع الالكتروني.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم