الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

قصور اللوار بين أحضان الملكات والمحظيات

المصدر: "النهار"
كاتيا الطويل- باريس
قصور اللوار بين أحضان الملكات والمحظيات
قصور اللوار بين أحضان الملكات والمحظيات
A+ A-

عاشقة باريس، بفنونها وشوارعها ومبانيها وتاريخها ومتاحفها، تكتشف ذات يوم ربيعيّ مشمس أنّ فرنسا ليست باريس فحسب. تكتشف على حين غرّة أنّ أريستوقراطيّة فرنسا وعظمة ملوكها وملكاتها لم تنحصر يومًا في باريس. فباريس العاصمة الفرنسيّة الصاخبة، لم تكن فعليًّا مربض خيل الملوك، الذين توزّعت قصورهم خارج أسوارها وتنقّلوا في أراضيهم وقلاعهم بعيدًا عنها وعن أهلها من العامّة.


على طول نهر اللوار (la Loire)، أطول نهر في فرنسا، قصور ملكيّة تقطع الأنفاس وتترك المرء مشدوهًا أمام عظمة التاريخ. قصور كانت في البدء قلاعًا. جدران هائلة حوت ألوف الوقائع والحوادث التي ندرسها اليوم في الكتب. قصور تخبّئ بين حجارتها أجمل القصص والمؤامرات والصراعات التي نسمع بأسماء أبطالها وشخصيّاتها من بعيد قبل أن نرى أنّها فعلاً أسماء تعود لأناس عاشوا في هذه الغرف والقاعات الشاسعة، وناموا وتنزّهوا ورقصوا فيها.

أزور هذه القصور لأرى حياتهم وأسرّتهم ومقاعدهم ومكتباتهم، لأستعيد شيئًا من أطيافهم المنسلّة إلينا من القرون الغابرة. ما لا يقلّ عن عشرة قصور ملكيّة تنقّل بينها الملوك منذ القرن العاشر، وتركوا فيها بصماتهم ولوحاتهم، وغبارًا من أنماط عيشهم.

ليست القصور ملكًا للملوك وحدهم، فالملكات هنّ الأخريات كانت لهنّ بصماتهنّ في القصور التي تنقّلن بينها، وأحدثن فيها تغييرات. ملكات وسمن التاريخ وغيّرن في حوادثه. تسلمن الحكم لأسباب مختلفة، فأظهرن حكمة وحنكة وبراعة فائقة. ملكات تنازعن القصور والأراضي، محظيّات تسلّقن السلّم الملكيّ ثمّ سقطن ما إن استعادت الملكة سيطرتها وهيمنتها. نساء وقصور وقصص تنسجها فرنسا منذ قرون عتيقة.




أسطورة الملكة كاترين دو ميديسي وغريمتها ديان دو بواتيه

لا يمكن الحديث عن القصور والملوك والملكات والمحظيّات من دون التوقّف عند ملكة فرنسا الأسطوريّة الملكة كاترين دو ميديسي (Catherine de Medicis, 1519-1589). فهذه الملكة الإيطاليّة الأصل التي جلبت معها إلى فرنسا عادات بلادها وتقاليدها والتي أحدثت ثورة في المجتمع الفرنسيّ على صعيد مطبخه وثقافته وعاداته، تكلّم التاريخ عنها مطوّلاً، ويمكن القول إنّه ظلمها في معظم الأحيان واتّهمها بالاستبداد والقسوة وحبّ السلطة.

تزوّجت كاترين المراهقة من الملك هنري الثاني الذي لم يكن وليّ العهد ولا واردًا على لائحة الحكم بعد. لكنّ الأقدار شاءت أن يجلس زوجها على العرش من بعد والده فرنسوا الأوّل لتصبح هي ملكة فرنسا ما بين العامين 1547 و1559. تزوّجت الملكة كاترين من هنري الثاني بوساطة قريبها البابا كليمان السابع، وبعد عشر سنين من الانتظار والخوف، أنجبت مولودها الأوّل فانتهت بذلك فترة التوتّر التي سيطرت على البلاط. وقد أنجبت كاترين من زوجها عشرة أولاد، ثلاثة منهم أصبحوا ملوكًا واثنتين أصبحتا ملكتين.

يطيل التاريخ تناول كاترين وأعمالها. فمن بعد وفاة زوجها تسلمت سدّة الحكم بالنيابة عن الملك القاصر. فحكمت سنوات ولم يتضاءل نفوذها حتّى بعد وصول الملك الشاب إلى العرش. فعنيت بالثقافة وحمت الأدباء ودأبت على الحفاظ على السلام ومحاربة أهل الفتن. حتّى أنّها حاولت التقريب ما بين الكاثوليك والبروتستانت في فترة كان الانقسام الدينيّ في أوجه والحروب الطائفيّة تنشب لأتفه الأسباب. لكنّ التاريخ يتناسى هذه الأعمال ويذكر مجزرة سانت برتيليمي العام 1572 التي أمرت فيها بقتل أبرز رجالات البروتستنت بعدما عجزت عن إخضاعهم.

قبل أن تصبح كاترين ملكة، كانت زوجة وامرأة. وفي ظلّ أعمالها السياسيّة والإداريّة كانت امرأة مدركة لخفايا الأمور، عالمة بعشيقات زوجها وعلاقاته السرّيّة. أكثر علاقة تحدّثت عنها الكتب كانت علاقة الملك هنري الثاني بامرأة تكبره عشرين عامًا هي ديان دو بواتيه (Diane de Poitiers). لم تحاول كاترين يومًا أن تمنع زوجها عن علاقته هذه أو أن تشير حتّى إلى علمها بوجودها. فكانت تغضّ الطرف عن هداياه إلى محظيّته ديان التي كان يؤثرها على جميع نساء البلاط، ومن ضمنهنّ زوجته. نالت ديان القصور والمجوهرات والأراضي. تمتّعت بثقة الملك وتحوّلت إلى مستشارته، ما منحها سلطة هائلة ومكانة رفيعة، حتّى أنّ الأخبار أفادت بأنّ الملك عندما كان يذهب إلى الجبهة مع جيشه كان يراسلها كلّ يومٍ بينما لم يكن يراسل زوجته إلى لمامًا.

لكنّ وضع ديان تغيّر بوفاة الملك، فقد انتهى عصرها الذهبيّ وبدأت فترة حكم كاترين. فاتّخذت الملكة الحانقة في حقّ محظية زوجها المتوفّى إجراءات متعدّدة، وهي وإن لم تكن إجراءات قاسية صارمة إنّما كانت واضحة ملموسة. فأبعدت كاترين غريمتها عن البلاط وسلبتها قصرها الرائع وهو قصر شونونسو الذي سيرد الحديث عنه في ما يأتي.

حكمت الملكة كاترين وحرصت على مصلحة بلادها وعلى إرساء السلام على الأراضي الفرنسيّة وخارجها. روت كتب التاريخ المؤامرات والقصص والقرارات التي حدثت في تلك الفترة من الزمن وطبعت التاريخ.



قصور ملكيّة ثلاثة

تتمايل ظلال الملوك والملكات والمحظيّات على جدران قصور اللوار الرائعة. قصور ثلاثة تتصدّر لائحة القصور الملكيّة وتدخل ضمن قائمة الأماكن الأثريّة الأكثر زيارة في فرنسا.

فعلى بعد 164 كلم جنوب باريس يظهر أوّلاً قصر شامبور(château de Chambord) الذي يُصنّف من أجمل قصور الصيد الملكيّة ومن أهمّ القصور في منطقةاللوار. بدأ بناء هذا القصر الملك فرنسوا الأوّل (والد الملك هنري الثاني، زوج الملكة كاترين) أوائل القرن السادس عشر (العام 1519) وتميّز القصر بحدائقه وبحيراته الرائعة ودرجه اللولبيّ البديع التصميم. وقد جعلت الأونيسكو هذا القصر موقعًا تراثيًا عالميًّا يزوره عدد هائل من السيّاح ليتنقّلوا بين دهاليزه وقاعاته وطبقاته الثلاث بأبوابها الخشبيّة العتيقة التي تركت القرون لمساتها عليها.

أمّا القصر الثاني فهو قصر بلوا (le château de Blois) الجاثم بين أزقّة بلوا الهادئة الساكنة. أهل بلوا يبتعدون كلّ البعد عن أهل باريس الدائمي العجلة والحنق. سكّان لطيفون مبتسمون كجميع سكّان بلاد الجنوب ينعمون بسكينة يُحسدون عليها في ظلّ كاتدرائيّة قوطيّة (cathédrale gothique) وقصر بلوا بقرميده الزهريّ والرماديّ وأعمدته الراقية. مئة غرفة نوم تحتوي كلّ منها على مدفئة. ما يزيد على خمسمئة غرفة وقاعة تزخر بآلاف القصص. قصر عجوز جالس على قمّة تلّة جميلة تطلّ على منطقة بلوا ويذكّر بالقدّيسة جان دارك التي خرجت من هذا الموضع لتحارب الإنكليز في العام 1429.

أمّا القصر الثالث الفائق الروعة والأناقة فهو قصر شونونسو (château de Chenonceau). قصر باهر قائم على المياه، كأنّه حلم، وكأنّه سراب ساحر سيهرب بين لحظة وأخرى. يسمّى هذا القصر بقصر السيّدات (le château des dames) لتنقّله عبر التاريخ من سيّدة إلى أخرى. فمن كاترين بريسونيه التي أمرت ببنائه إلى محظيّة الملك ديان دو بواتيه إلى الملكة الأرملة كاترين دو ميديسي وغيرهنّ تغيّر القصر وأجريت عليه تعديلات وتغييرات إلى أن أصبح ما هو عليه اليوم، أقلّ ما يقال عنه إنّه مذهل ساحر. يتمتّع هذا القصر بحدائق رائعة وبمتاهة جميلة أمام حدائقه يتمشّى بين جدرانها الخضراء العشّاق والسيّاح ويركض الأطفال بهلع وضحك بحثًا عن مخرج.

قصور مهيبة تمتدّ على طول ضفّتي نهر اللوار الشهير، دهاليز تتراقص فيها أطياف الماضي، قصص نساء ورجال تمتّعوا بنفوذ هائل وحكموا أوروبّا من بين هذه الجدران. تاريخ عتيق ينفض غباره بين وقت وآخر بين أصابع هذه الحجارة ويذكّر السيّاح المشدوهين بعظمة الذين كانوا، بعظمة عرش فرنسا الذي رحل أهله واندثروا من دون أن تنساهم صفحات التاريخ.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم