الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

صبّاب القهوة الطرابلسيّ المتأنّق "محمد"

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
صبّاب القهوة الطرابلسيّ المتأنّق "محمد"
صبّاب القهوة الطرابلسيّ المتأنّق "محمد"
A+ A-

إنه يوم آخر في مَنطِقة التلّ في طرابلس. الباعة يَعرضون مُنتجاتِهم على العَرَبات المُزوّدة عَجلات، ولمَ لا أرضاً على الأرصفة، هُنا وهناك، في انتِظار "زبون من هون" وآخر من هُناك... في انتِظار "رِزقة" اليوم! 

الناس، من مُختَلَف الأعمار، "يَنغلون" في مُختَلَف الشوارِع الطرابلسيّة، "مَعجوقين" بأمورهم الصَغيرة والأخرى المصيريّة التي يُمكن أن تُتَرجَم بدَفع فاتورة وتأمين وَجبة غداء النهار .

ووسط هذا المَشهَد "المُنعِش"، الذي يُمكِن أن تُبنى عليه روايات شعبيّة أبطالها "منّا وفينا"، يَنجَذِب النَظَر إلى رجل مُتقدِّم في العُمر، مُتأنِّق، تَفوحُ منه رائِحة زكيّة، يَرتَدي رَبطة عُنق "مُزوزقة"، لون بَشَرَته داكنة بعض الشيء، وكأنه يَتعرَّض يومياً لساعات طويلة من الشمس.

شيء ما في إطلالَته يؤكّد أنه يَعشق الحياة.

شيء ما في "طلّته المَهيوبة" يؤكِّد أنها لم تتمكَّن منه.

من الواضِح أن "العيشة ما كانت هنيّة"، ومع ذلك مَظهره يوحي السَعادة والرضا.

يَقف على رَصيف انتَشَرَت عليه مُختلف العَربات التي تَعرُض مشهيّات "ع مدّ النَظَر"... "تفضلوا تذوّقوا... ما بتندَموا...".


ابتسامته "أنيسة"، و"مُرحّبة"، تُشجّعك على الاقتراب منه لمعرفة قصّته... مع هذا الرَصيف... مع هذه الحياة.

"اسمي محمد. محمد حاف. هون أنا مَعروف باسم محمد"، يُجيب عن السؤال المَطروح بِحَذَر.

"شو بعمل هون؟"، يَضيف قائلاً، "أنا صبّاب قهوة. أقفُ على هذا الرَصيف منذ 29 سنة"!

عَرَبته الصغيرة مُزيّنة بالزهور. ووَضَعَ إلى جانبها نَرجيلة مَصنوعة بالتَبَغ الأصلي.

السَطر الأول لقصّته مع صناعَة القهوة؟

"أوف! قبل كل شيء، بعد وفاة والدي تَرَكَ لي كَمشة لَحم! وأعني بهذا التَعبير أشقاء وشقيقات. كنتُ أعمل في الخَشَب في البحصاص. اندَلَعَت الحَرب...عملت عربيّة قهوة مع مصبّات".

كان "محمد" يَعمل في بداياته 17 ساعة يوميّاً، "وكان فنجان القهوة يُكلِّف الزبون 250 ليرة! تصوّري أنني تمكّنت من أن أزوِّج أشقائي وشقيقاتي، ولاحقاً أولادي الـ14 من هذه المهنة"!

يضيف ضاحكاً عندما يَرى علامات الذهول على وَجهي، "نعم! عندي 14 ولداً! وهذه ابنتي تزورني الآن مع ولديها وزوجها".

يُرحِّب بها "محمد" بحفاوة. يعرض عليها القهوة. تَرفضها مُبتسمة، "عم كزدر هالولاد شوي"!



يَصل "محمد" إلى زاويته على هذا الرَصيف، "يوميّاً في تمام السادسة صباحاً. أستيقظُ عند الرابِعة. أحتاج إلى الكثير من الوقت لأحضِّر القهوة على الأصول. وأبقى واقفاً في المكان عينه حتى الخامسة من بعد الظهر. هذه حياتي منذ 29 سنة".

الوَضع الحاليّ، "مش ولا بدّ! قبل 3 سنوات كان العَمَل – يعني مَعقول – اليوم ماكسيموم بطلِّع 20 ألف ليرة في آخر النهار! قبل هذه السنوات الـ3 الأخيرة، تمكّنت من أن أربّي عائلة مؤلّفة من 14 ولداً... من ورا القهوة. اليوم أبيع الفنجان بـ500 ليرة ويا دوب معي 20 ألف ليرة عندما أعود إلى المنزل".

يضيف بأسى، "الأجانب كَرسحونا لدى دخولهم البلد. يُكلّفني كيلو البن 15 ألف ليرة! أنتَظر الزبون كل النهار – بضوج! وين بدّي روح؟ إذا بدّي إقعد بمقهى بدّي 3 – 4 آلاف ليرة. من وين بجيبن؟! تفضلي شاركيني بنفس النرجيلة. كل يوم أشرب نَفَس! بغيِّر جوّ!".


يَقتَرب منّا أحد أبناء "البلد" (الطرابلسيّ يُطلِق على مدينته إسم البلد)، يقول لي بـ "مَحتلة" "إسأليه ماذا يُحب في هذه الدنيا"؟ يَضحك "محمد" قبل أن أطرح عليه السؤال، قائلاً: "النسوان! بشرفك شفتي بحياتِك قهوجي بهالجمال؟! الله سبحانه وتعالى خلق الجمال! حمار يالّلي ما بيحب الجمال"!

"يُنرفِز" هذا القهوجي المتأنِّق قليلاً قبل أن يُكمِل حديثه من دون ان ينتَظر منّي الأسئلة، "الّلي ضَرَب المدينة هون: السياسيّين! البلد كانت أمّ الفقير"!

يَصمت قليلاً قبل أن يسألني: "مزوّجة؟".

عندما أجيبه أنني ما زلت "تحت نصيبي"، ينظر إليّ نظرة أبويّة، قبل أن يَهتُف، "الله يبعتلك عريس! بس وعديني ترجعي تعزميني ع عرسك! بدّي ألبُس أحلى تياب"!

[email protected]



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم