الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

لبنان بين الفراغ وانفراط الميثاق الوطني

غسان ملحم
A+ A-

تحتدم المعركة في سوريا، وكذلك تتجه المنطقة بكاملها نحو المزيد من التصعيد والعنف. قد نكون على مقربة من إمكان انعقاد التسوية، ولكننا في قلب مخاض إعادة رسم خريطة المنطقة السياسية أو ولادة الشرق الأوسط الـجديد.


هي لعبة أمم من دون أدنى شك، يقف لبنان منها متفرجاً كما لو أنه لاعب احتياط، وقد تم تحييده، وإن كان قد اعتاد أن يكون حقلاً أو مختبراً للتجارب! على أية حال، فإن لبنان لا يسعه سوى أن ينتظر، وهو لا يستطيع أصلاً أن يفعل شيئاً سوى انتظار وترقب ما سوف تتكشف عنه ميادين المعارك، نظراً لصغر حجمه وضعف وزنه أو ثقله السياسي، وهذا أمر ليس جديداً أبداً، في حال استثنينا ما طرأ على معادلة التوازن بالنسبة لصعود "حزب الله" السياسي وكذلك وظيفة السلاح محلياً وإقليمياً.
فما الذي يعنيه طول انتظار لبنان، وهو يراوح مكانه بين عتبة التفجير المستطير من جهة واستحالة أو صعوبة التشكيل أو التأليف أو انعقاد الـجلسة أو تأمين النصاب أو التعيين أو انتخاب...
لقد طال بالفعل أمد البحث في تشكيل الـحكومة اللبنانية، وبرزت للعيان حقيقة التباينات الـجوهرية بين مختلف الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية على الساحة المحلية. فلا شك في أن هناك ثمة أزمة سياسية في البلد على خلفية الـخلاف على توزيع الـحقائب الوزارية والـحصص، وكذلك التوازنات الداخلية، وكيفية، ومقدار، تمثيل القوى والتيارات السياسية في الـحكومة العتيدة. ولا أحد يستطيع أن ينكر وجود مشكلة حقيقية في ما يتعلق بتأليف الـحكومة اللبنانية. ولكن الـحقيقة أيضاً هي أن مسألة تشكيل مجلس للوزراء في لبنان، يتولى السلطة التنفيذية كاملة في ظل الظروف الصعبة التي تحدق بالبلد والمنطقة، هي من الأهمية بمكان بحيث أن تعثر ولادة هذه الـحكومة يعكس خطورة هذه اللـحظة السياسية والتاريخية، ويدلل على ارتباط هذه المسألة وغيرها من التحديات والإستحقاقات السياسية والوطنية بمجريات الأحداث في سوريا خصوصاً وفي المشرق عموماً.
من الواضح طبعاً أن كل الأطراف الداخلية كانت غير قادرة على تفكيك هذه المعضلة عند تشكيل الـحكومات في لبنان منذ توقيع وثيقة الوفاق الوطني. وقد اقتضى الأمر دوماً التدخل الـخارجي من قبل سلطة الوصاية أو القوة الراعية الإقليمية للتوفيق ما بين الإرادات اللبنانية المتخاصمة أو المتناحرة أوحتى فرض التشكيلة الوزارية بالقوة.
هكذا يبدو واضحاً في الفترة الأخيرة، منذ اغتيال الرئيس الراحل رفيق الـحريري وانسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية، وما أعقبهما من فراغ سياسي وأمني، قصور القيادات اللبنانية وعجزها عن تسيير دفة الـحكم والتعامل مع قضايا الناس، حتى لا نقول أن هذه الطبقة السياسية الـحاكمة في لبنان لا تدرك واقعاً جوهر أقانيم الإستقلال والـحرية والسيادة في الممارسة السياسية على قاعدة الديموقراطية والتداول السلمي واستمرار عجلة السلطة.
من هنا، يمكن القول أن الفراغ الـحكومي الذي يعيشه البلد منذ شهور عدة هو نتيجة الـخلل في النظام السياسي والدستوري أولاً، ومن ثم ترهل وفساد نفس هذه الطغمة السياسية والإقتصادية التي تدير البلد وتقبض على مفاصل السلطة ومظاهر النفوذ فيه ثانياً. ناهيك عن شدة ارتباط مجريات العملية السياسية في لبنان بما يدور من حوله في سوريا وكذلك في فلسطين المحتلة وغيرهما من بلدان الـجوار والمنطقة العربية ثالثاً.
لم يعد من المقبول استمرار هذا النمط من التعاطي السياسي مع ملف تأليف حكومة وطنية بأقصى سرعة ممكنة، لما له من أهمية سياسية واقتصادية في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان والمنطقة العربية. فالمطلوب من جميع القوى السياسية المعنية بالتفاهم على صيغة حكومية جامعة أن تدرك مخاطر التباطؤ والتمادي بالمزايدات والمناكفات، وأن تعمل تالياً على تذليل العقبات التي تحول حتى يومنا هذا دون اتفاق اللبنانيين على تشكيل حكومة إنقاذ أو طوارئ بقصد التصدي العاجل للتحديات الوطنية والقومية والدولية.
هنا ينبغي التنبيه الى تدني مستوى الـخطاب السياسي، بل إسفاف البعض أو العديد من السياسيين في التصريح أو التحليل السياسي، وتصاعد حدة الـخلاف السياسي بين مختلف الفرقاء، حيث ينقسم المجتمع السياسي اللبناني بشكل عمودي حاد على أسس فئوية، غالباً ما تكون طائفية ومذهبية، وحتى مناطقية أو إقليمية، بما يتهدد وحدة النسيج المجتمعي والبناء الوطني من الداخل. ناهيك عن تفاقم اضطراب الوضع الميداني في إشارة إلى احتقان الشارع وغليانه بفعل التصعيد وتشنج المواقف السياسية وتصدع أمن البلد والناس واستقرارهم. وقد ساهم اختلاف بل انقسام اللبنانيين حيال الصراع في سوريا، وكذلك انغماس جميع اللبنانيين من دون استثناء في ما يجري في سوريا.
قد يختلف اللبنانيون في تقويم المشهد المستجد في سوريا وكل المنطقة، وفي قراءة أو تأويل كل تلك المستجدات السياسية والميدانية. وهم يختلفون أيضاً في كيفية التعامل ربما مع ملف النازحين السوريين، وطبعاً موضوع تسليح المعارضة السورية ومساندتها، ومسألة النظرة حيال النظام القائم والعلاقة معه، ولكن كان حرياً بجميع اللبنانيين، على كل الصعد والمستويات، ومن مختلف الطوائف والمذاهب، أن يعلموا أن ما يحصل في سوريا وبقية بلدان المنطقة العربية هو بالتأكيد أكبر بكثير من كل لبنان، وهو أبعد من مجرد البحث في سبل التحول أو التطور الديموقراطي.
فتوتر الوضع في الميدان أو الشارع، في أكثر من بقعة أو مكان، نتيجة تقابل المواقف وتصادم المصالح، ودخول أطراف خارجية على خط الصراع الداخلي اللبناني، وعليه احتمال انتقال شرارة الفتنة وحرب ما إلى لبنان من داخل سوريا أو من ناحية فلسطين المحتلة، كله يفيد عن إمكان انفجار الوضع في لبنان. وما استمرار حالة الهدوء النسبي أو عدم بلوغ التصعيد حد الموجهة المعلنة والشاملة سوى نتيجة عدم وجود قرار دولي حتى اليوم بإقحام الساحة اللبنانية في المعركة الكبرى، وما تفسير ما يحصل ويمكن أن يحصل في لبنان من أحداث أمنية سوى أنه من ملامح وإرهاصات إرتباط عضوي للبنان بمحيطه العربي وتبعية مفرطة لعامل التدخل الدولي من طرف أجنبي أو إقليمي!
مرة أخرى يقف لبنان على مفترق طرق خطير، وهو يبدو كما في كل مرة ضعيفاً ومتلقياً أكثر منه قادراً على المبادرة الفاعلة، ذلك أنه يفتقد تاريخياً لمؤسسة الوحدة الوطنية أو ثقافتها والتي يُفترض أن تكون الدولة الوطنية مدماكها الرئيسي بل المركزي. لقد أثبتت التجارب التاريخية مراراً وتكراراً عدم قدرة لبنان على التأثير بقوة في محيطه كما في النظام العربي والدولي بمقدار انعكاس تلك المعطيات من خارج حدوده على واقعه الداخلي وتأثيرها على مسار العملية السياسية فيه، حتى أن التوازن الوطني في لبنان كان على الدوام بشكل أو بآخر انعكاساً للتوازنات الدولية والعربية.
ما يخوضه لبنان اليوم ليس مجرد أزمة حكومة أو أزمة حكم، وكذلك فإن لبنان لا يعيش حتى مجرد أزمة نظام سياسي واجتماعي، وإن كان كل ذلك صحيحاً وقائماً فعلاً على أرض الواقع. إنها أزمة كيان بكل معنى الكلمة، فهي أزمة مزمنة ومستفحلة، وهو كيان غير قابل للـحياة، إذ لا يمكنه أن يحيا حياة مستقرة وطبيعية كغيره من أمم وشعوب، وقد يكون أيضاً غير جدير بالـحياة ما لم تعلُ إرادة الشعب اللبناني للتغيير المنشود في العقد أو الميثاق من أجل المحافظة على الصيغة... أو ربما تغيير أو إعادة إنتاج صيغة جديدة بشكل جذري للكيان برمته وللدولة من أساسها!


باحث في مركز الدراسات السياسية في فرنسا

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم