الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

شجرة بوسان عصافيرها من ذهب

المصدر: "النهار"
فاروق يوسف
شجرة بوسان عصافيرها من ذهب
شجرة بوسان عصافيرها من ذهب
A+ A-

ما من شجرة تشبه أخرى. بل الشجرة، كلّ شجرة، لا تشبه نفسها بين لحظتَي نظر. يعود إليها المرء فيجدها أخرى. لذلك شغف بها الرسامون.  

إنها هبة الطبيعة التي تخفي بين أوراقها معجزة حرية متخيلة. لأجل ذلك، كان لكل رسام شجرته التي لا تُرى إلا على سطح اللوحة. حينها يدرك الرسام أنه رسم شجرة من الماضي. شجرة لم يعد في إمكانه العودة إليها، ذلك لأنها لم تعد موجودة. وهذا ما يجعله مطمئنا إلى أنه جلب شجرة لن يتم العثور عليها في الطبيعة.

إنها شجرته. وحده يعرف أين تقع. وإن سُئل فسيضع يده على صدره. نعم إنها تقيم هناك في سنتيمتر من عاطفته التي يروق له أن يسمّيها "الخزانة الخفية".

كل شجرة مرسومة هي نوع من العاطفة التي استطاع الرسام أن يزين عينيه بصرخة عصافيرها.

أذهب إلى شجرة الفرنسي نيكولا بوسان (1594ــ 1665) في "ناشيونال غاليري" بلندن كلما دفعني تأمل أشجار حديقة سانت جيمس إلى البحث عن شجرة تشبه نفسها، من جهة عصيانها لطبعها وطاعتها لعاطفة الرسام. أقف أمام تلك الشجرة لأتعلم شيئا عن الجمال لا يعثر المرء عليه في الطبيعة. ما معنى ذلك الجوار الذي يضع الإنسان مقابل الطبيعة باعتبارهما ندَّين يختصمان على شجرة؟

بعدما مر بوسان بشجرته في مختبر عاطفته، لم يعد ممكنا أن تعاد تلك الشجرة إلى الطبيعة. هي شجرة لكنها مرسومة. لقد استأنفت حياتها هناك بعيداً من ترابها وهوائها ومائها. وهذا ما يعطل سماتها الأصلية. شجرة لا تحطّ عليها العصافير، هي ليست من الطبيعة في شيء.

شجرة بوسان، وهو المشهور بمناظره الطبيعية الكلاسيكية، ليست صنيعة متحفية تماما، فلها حياتها التي لا تزال مستمرة. حياة مستلهمة من العيون التي يعصف نشيد أوراق الشجرة الداكن بأهدابها فلا تقوى على أن تظل مفتوحة. هناك فرصة متاحة لكي نحلم وسط العابرين في نهار باروكي الملامح.

تلك هي شجرته. شجرة بوسان بهدوء مشاهده التي تحض على النعاس المتأني، بترف العابرين ونزقهم وشهواتهم الخفية وصدى همسهم الذي يتسلل إلى خضرة الأعشاب الداكنة.

غير أنني كلما رأيت تلك الشجرة، وقد فعلت ذلك عشرات المرات، أحملها معي إلى بيتي. صغيرة كما هي في لوحته لأتأملها بمعزل عن محيطها الذي صرت أعتقد أن بوسان لم يرسمه إلا من أجلها.

كل هذه الغيوم والآفاق والأعشاب والمياه والصخور والقلاع والبشر من أجل شجرة. شجرة ستكون لي في النهاية. أنا الغريب القادم من بلد خطف الليل أشجاره. كنت أتمنى لو أن أحدا رسم شجرة من بلادي لكي أحملها إلى بيتي مثلما أفعل بشجرة بوسان. غير أن رسامي بلادي أفسدهم الرسم المختبري فصارت الطبيعة عدوّا لهم.

في معظمه كان الرسم في العالم العربي نتاج عمليات لقاح جرت في الأنابيب. ما من حياة حقيقية في الرسوم التي ينتجها الرسامون العرب إلا في ما ندر. التشخيصيون ممثلون مسرحيون، أما التجريديون فإنهم صانعو تقنيات صارت مع الوقت جاهزة.

التفت أحيانا إلى شجرة العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925 ــ 2004) في لوحة صغيرة قدمها إليَّ هدية في العام 1997. رسم آل سعيد تلك الشجرة في محاولة منه لتفكيك أسرار لغز الشخصية العراقية. وهذا ما لم يكن بوسان في حاجة إليه.

لو أن أحدا سرق شجرة آل سعيد بعينيه وحملها معه إلى بيته، لما شعر بالراحة ولكان لام نفسه لأنه حمل كابوسا إلى سريره. فهي شجرة حكايات تحمل بين طياتها آلاف الشفاه التي تروي، وآلاف الآذان التي تسمع، وما بينهما تقيم المعصيات قراها.

حين أنظر إلى تلك الشجرة أنصت إلى زقزقة العصافير التي تنبعث من شجرة بوسان. عصافير باروكية لا يزال ذهب أجنحتها يلمع.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم