الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

بغداد غريبتنا وغربتنا

المصدر: "النهار"
علي السباعي
بغداد غريبتنا وغربتنا
بغداد غريبتنا وغربتنا
A+ A-

الاحتراق الكامل في مملكة الزاماما 

سألتُ نفسي كثيراً بعدما فرغتُ من إنجاز كتابة "احتراق مملكة الزاماما"، ترى هل ابتعدتُ كثيراً عن الواقع؟ أعتقد أن "احتراق مملكة الزاماما" قد ابتعدت كثيراً إلى درجة أنها اصطدمت بالواقع، فأردتُ لها أن تكون هي الواقع، فكانت هي الواقع عينه. الحرب التي هي قدرنا الدائم نمارسه بنشيد للأطفال، "أنا جندي عربي"، سيكون حجم "السلام" الناجم عنها بقدر ما سنشيعه من جثث. التاريخ يستحق أن يُبصق عليه. فرمانات الحجاج هي قوانيننا وقراراتنا الدائمة: "كل من يريد أعضاءه الذكرية يجلب مقابل وزنه ذهباً". ألسنا مستهدفين بقتل فحولتنا حتى تكون الديكتاتوريات هي الفحل الوحيد بيننا؟! إن جياع العالم الثالث يلتهمون القمر. الموتى كثيرون إلى درجة أن هناك درجات شاغرة لخبير في صنع التوابيت. الغريب أن الميت الأهم بين كل الموتى هو فرس شهريار، في حين أن الراوية شهرزاد لا تزال تروي حكاياتها للفحل الأقوى الذي يريق دماً مع كل فجر. أليست مأساة حقيقية أن تكون الحياة محصورة في خيول فائق حسن وفي الخيول الجامحة التي أقسم بها الرب في قرآنه الكريم؟! ما انتفاعنا بالسيف الذي نشهره بدون طعان حين يذهب رأس الجد إلى متحف بريطاني وتموت الحبيبة في قطار انكليزي؟!

الطامة الكبرى أننا نريد أن نبني حضارة من نفايات عفنة، مناصروها هم الفقراء الجائعون. لم يبق للجمال قيمة لأن الأزهار ندوسها بأحذية قديمة. أين هم الرجال حتى تريد قطام أن تحرر النساء منهم؟! لماذا هذا القانون الصارم: الألم قانون الحياة؟! يا للهول! ما الذي يبقى حين تحترق السدرة هذه التي تظلل عرش الرب؟! بعد جماهير الأنبياء والمصلحين والثوار والمناضلين والشهداء الذين أنجبهم آدم، تكون النتيجة أن أسلافه يذهبون إلى الجحيم بلا مغفرة . أما الجدل بين الأضداد في "مومياء البهلول" فهو جدل للتراجع. الجنة والنار والنفط والغذاء والأرض مقابل السلام والبندقية والتعويذة والأصلي والزائف والخير والشر...، كلها تؤدي إلى ميزان بكف واحدة. الجسد هو الذي يتقدم. أما الرأس، وفيه يكمن جوهر الفكر، فينكص إلى الخلف. الخطأ إذاً هو الصحّ، والصحّ يؤدي إلى الانقلاب. فما الفائدة من المقاومة؟!

إنه الاستسلام والعدمية. أين نتلمس الزمان إذاً؟ ومتى يكون المكان في "احتراق مملكة الزاماما"؟ نجد الزمان سرمدياً أبدياً، فهو موغل في القدم إلى زمن آدم، أنكيدو، جلجامش، عتودة، قطام، الإسكندر المقدوني، رمسيس الثاني، قيصر، كليوبترا، وهولاكو. إنه ماثل في الحاضر مع كوفي أنان وشارون وكلينتون ومونيكا وعبدالله أوجلان وهانس فون سبونك وليونيل جوسبان، ويمتد إلى المستقبل بنبوءات العرّافين وتوقعات الأجداد إلى يوم القيامة. إن كليوبترا كانت سبباً في مقتل قيصر، أما المكان فهو سومر وأرض الفراعنة ونيويورك وبيرنا والناصرية، والعالم بأسره.

ترى، هل أستطعتُ أن أكتب عن واقع المأساة أو مأساة الواقع؟ هذا هو السؤال، وهذه هي العلة!

الزاماما تعني: الحرب في لغة العرب القديمة.

***

غربة شهريار: شهرزاد

يا إلهي. كم صغيرة هي هذه الحياة! سرعان ما تجد نفسك في فلكٍ لامتناهٍ، فتدور ضائعاً، على رغم محاولاتك للخلاص منه. تخطفك مصيدة، شباكها من حديد، تصطادك على رغم أنفك، تقيّدك، فتشعر حينذاك بأنك لا شيء.

تدنو منيّتك منك شيئاً فشيئاً، يقول شهريار، وهو ينظر من شرفة قصره المطل على أحد شوارع بغداد. يتنهد، كأنه يتنبأ بشيء خرافي: ما أروع أن يكون البشر كائنات خرافية عملاقة، وأن أكون فراشة. يبتسم شهريار، وينظر إلى أعلى، فيجد السماء، سماء بغداد الصافية، الهادئة، وقد هجم الدخان الهائل عليها، طائفاً حولها بشكل دائري، مرتفعاً إلى ما فوفها، حاجباً عنها الشمس، جاعلاً سماءها تحت عباءته السوداء، متجولاً في شوارعها الأنيسة، شارعاً شارع: أبي نواس، السعدون، الجمهورية، الرشيد من الباب الشرقي حتى باب المعظم، المتنبي، غازي، عشرين المغرب، حيفا، محمد القاسم.

هذا الدخان الغريب عن جسد بغداد البض الطازج، يريد ابتلاع بغداد، يريد ابتلاع جسد دار السلام كلها، ابتلاع حياتها، ابتلاع حياتنا كلها بلقمة واحدة.

شهريار بصوت مسموع: أن أكون فراشة ويكون كل البغداديين من حولي وروداً.

صوتٌ من الغرفة المجاورة لشرفته. إنه صوت نسائي خلاب مكحّل ببحة بغدادية عذبة، معقباً "الصوت" بمزاج لاذع: أنت فراشة يا شهريار، وأنا زهرتك، زهرتك التي تمتصها رحيقاً عذباً وعسلاً رائقاً. أتسمعني؟

يجيبها، والأمل يمازج نبرة صوت: نعم. أسمعك يا شهرزاد. إن ما فيَّ ممتلئ بنورك، مستمدّ إياه من رحيق ضيائكِ الذي يشبه شمس بغداد. شهرزاد، يا بغدادي أنت.

يسمع رقرقة، ضحكتها ممزوجة بصداح فيروز، يستطرد: يا بغدادي. يا دار سلامي. يا شهرزادي. كل ما أعيشه صار مأساة، مأساة حقيقة، كابوساً، كابوساً أسود...

تقاطعه: ما بك يا سلامي؟

يبتسم شهريار بأسى، ويسرح محدقاً أمامه في خراب بغداد، بغداده التي يكثر فيها السلب والنهب والاقتتال والازدحام والضجيج والخوف والذبح والمفخخات واللاصقات والكواتم والاحتراب والأحزاب، وصارت خربة، بلا سلام: غربة. إنه الإحساس بالغربة. ما أعيشه الآن يا شهرزادي هو غربتي.

شهريار باكياً بلوعة: نحن غرباء. نحن فراشات غريبة تبكي بصمت عندما تنطفئ شموس بغداد كلّها بغتة، وكأن هذه الشموس كانت شموعاً لأرواحنا. أجد نفسي الآن غريباً، أشعر بالغربة، وأشد ساعات حياتي غربة تلك التي أكون فيها مع ناسي، وأهلي، وداخل بغداد، بغداد عاصمتي ومدينتي. لذا أتمنى لو أكون فراشة تطير بارتعاشات عشوائية راقصة من زهرة إلى زهرة، ومن حديقة إلى أخرى. كفراشة أذهب صوب الضوء، ضوء الحياة، حياتنا البغدادية الساحرة...

أنا فراشتكَ، تقول شهرزاد. أنا فراشتكَ التي تعزف على أوتار قيثارتها أعذب ألحانك الحية الخالدة.

كانت أحزاناً حزينةً دوماً، يقول شهريار.

بدون حزنك يا شهريار، تموت الحياة، ونذبل نحن، ونذوي.

يقاطعها بحدة: ما نعيشه وتعيشه بغداد الآن هو عزف نشاز لحصاد زرعته. نعيش حصاد كل ما زرعناه في حياتنا الماضية. إنه حزننا الذي يسكننا منذ زمن بعيد يجيء الآن ليحصدنا، ليحصدني، ليحصد كل ما بنيت، أمانيّ وطموحاتي.

تعقب شهرزاد بجدية: حقاً. كأننا فراشات غريبة ترقص على ضوء شمعة القدر، قدرنا، قدرنا العراقي. نرقص غربتنا فوق لهيب حياتنا الحزينة.

يقاطعها شهريار بسؤال: أتشعرين بالغربة مني يا شهرزاد؟

تجيبه إجابة باترة حازمة صادقة صادمة مثل منجل القدر، جامعةً خساراتها وأحزانها وفقداناتها وغربتها، ناظرةً بعينين بغداديتين حلوتين صوب بغداد ودجلتها: نعم، أشعر بالغربة!

* كاتب وقاصّ عراقي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم