الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مسلمون ومسيحيون وقرون وسطى

المصدر: "النهار
الشدياق يوسف "رامي" فاضل
مسلمون ومسيحيون وقرون وسطى
مسلمون ومسيحيون وقرون وسطى
A+ A-

يذهبُ الرأي بالعديد من المستشرقين إلى اعتبار أن الإسلام يعيش قرونه الوسطى في هذا الزمن، ويذهب الرأي بنا إلى اعتبار الشرق بكامل أديانه يَقبَعُ في هذه القرون. ذلك لأنَّ الظواهر "القروسطيّة" لا تقتصر على الإسلام في هذا الشرق إنَّما تتعدّاها إلى المسيحيّة واليهوديّة وإن بنسبٍ متفاوتة، في حين أنَّ #الإسلام الغربي أو العالم الإسلامي خارج الشرق لا يعرف هذه الظواهر إلا بقدر ما يتفاعل مع الإسلام الشرقيّ، ويمكننا أيضًا ملاحظة الفروقات العميقة بين المسيحيّة الشرقيّة وبين شقيقتها الغربيّة، فالمسائل التي تشغل المسحيين في الشرق باتت محسومة عند المسيحيين في الغرب منذ أمدٍ بعيد.

وما يجعلنا نميل إلى هذا الرأي –طبعًا من دون أن نُعمِّم- هو تشابه الظروف والأسباب الحاليّة في شرقنا مع الظروف والأسباب الّتي أدَّت إلى ظهور قرون الظلام في #أوروبّا، من الأخطار الوجوديّة والشعور المتنامي بالخوف على الهويّة إلى انحدار الخطاب الثقافي الواسع على حساب الخطاب الشموليّ الضيّق، مرورًا بالحالة "الذميّة الجديدة" التي جعلت العديد من المسيحيين يتبنّون سياسات الأنظمة بشكلٍ راديكاليٍّ عاطفيّ.

 كلّ هذه الأسباب وغيرها ساهمت بتغييب النقد من العقل المسيحيّ المشرقي، مما ساهم في الوقوع في أزمات عديدة على صعيد الإيمان والممارسة الدينيّة لدى أتباع الديانة المسيحيّة بكافّة كنائسها وطبعًا ليس بكافّة مؤمنيها.

ومِن الأزمات الكبيرة التي يواجهها العديد من المؤمنين المسيحيين اليوم هي "أزمة القداسة" مع كافّة الأزمات المرتبطة بها. ففي الوقت الذي تستعيد فيه السلفيّة الإسلاميّة "أقوال السلف الصالح" وتضعها بمصّاف "القرآن الكريم" وتطالع الآيات القرآنيّة بمعزل عن أسباب النزول وعن الظروف التاريخيّة والثقافيّة التي كُتبَت بها هذه الآية، نَرى العديد من التيّارات الروحيّة المسيحيّة تحذو حذو السلفيّة الإسلاميّة وتتسلّح بالحرفيّة في وضع كلام القدّيسين بمصاف الإنجيل المقدَّس وفي تفسير الإنجيل بشكلٍ جامدٍ دون أدنى محاولة لتأوين خبرات القدّيسين وكلامهم، أو لفهم الإنجيل المقدَّس بطريقةٍ حيّة تؤكِّدُ على حياة هذا الكتاب وعلى عمل الروح القدس في الكنيسة.

وترتبط هذه الأزمة بنظرة البعض للقداسة وللقدّيسين. فالقداسة في المفهوم المسيحيّ هي الدعوة التي وجّهها الربّ يسوع المسيح إلى كلّ إنسان لكي يتشبَّه به ولكي يسعى بشكلٍ دائمٍ إلى الكمال ضمن رحابة الإنسانيّة التي نعيش بها، وضمن هذه الرحابة يمكن لكلّ البشر أن يعيشوا حياة القداسة كلّ بحسب مواهبه وبحسب شخصيته وبحسب فرادته. وقد عبَّر البابا القديس يوحنّا بولس الثاني عن هذه الحقيقة عندما قال أنَّ طرق القداسة هي بعدد جميع البشر!

إذن فالقداسة لا تستوجب من المؤمن المسيحيّ أن يسلك سلوكًا واحدًا أو أن يتمتّع بالمواهب عينها التي تمتّع بها القدّيسون قبله، كأن ينخرط في السلك الكهنوتيّ أو الرهبانيّ أو أن يحاول تقليد مار شربل أو القدّيسة فيرونيكا جولياني أو غيرهما، يكفي أن يقتدي بالمسيح وأن يقتدي بالقديسين كما هم اقتدوا بالمسيح. وبطبيعة الحال فالقداسة لا تتطلّب من المؤمن أن يكون من أصحاب الذكاء الخارق أو الصحّة السليمة، ففي المسيحيّة يمكن لمن يحمل الإعاقة الجسديّة أو العقلية أن يبلغ إلى مجد القداسة. وحين تُعلن الكنيسة القدّيسين فهي لا تجعل من كتاباتهم الكلام المنزَل ولا تفرضه على المؤمنين، كما لا تعصم سلوكهم أو سيرتهم من النقص البشريّ. فالقديس بطبيعة الحال هو أحد الأشخاص الذين عاشوا النقص البشريّ، واختبروا النعمة الإلهيّة في حياتهم. بالتالي يتحتَّم على المؤمن المسيحيّ أن يتمتع بموهبة التمييز، وأن يبني علاقته الشخصيّة مع الله قبل أن يغوص في أساليب التَديُّن.

بالعودة إلى السلفيّة المسيحيّة نجد أن سلوكها يتطابق مع ما أسماه الأب رمزي جريج "التديُّن الطبيعيّ" حيث يصبح القدّيس بمثابة الرجل الخارق المعصوم بسلوكه وكتاباته، وتُصبِح الممارسة الدينيّة مرتكزة على علاقة "العرض والطلب" بين الإنسان والله، فتغيب العلاقة بين الله والإنسان عن هذه الممارسة، على حساب تأدية الفروض الدينيّة من الصلوات والتساعيات والنذورات والتمسُّك الأعمى بحرفيّة النصوص على حساب خير النفوس. ولعلّ هذا السلوك يؤدّي إلى ظاهرة "التكفير" التي تكلَّم عنها الأب جورج مسّوح في مقاله السابق على هذه الصفحة، حيثُ يعمد من يعتنق "التديُّن الطبيعيّ" إلى تكفير كلّ من يخالفه الرأي وإلى إرساله للنار الأبديّة حيث البكاء وصريف الأسنان.

كلّ هذه الظواهر تُشير إلى الخوف الكبير الذي يجتاح كنائسنا ما دفع بالعديد من بَنيها إلى البحث عن الضمانات الوجوديّة من خلال التطرُّف الديني بالشكل السلفيّ الذي نراه في مجتمعاتنا. وكأن البعض يريد أن يخلق له الأوهام والأساطير التي تعطيه الآمال الكاذبة في الإنتصار! فكم من رسالةٍ وُضِعت على لسان #القدّيس_شربل تقول بأن الله سيحمي لبنان من كلّ الأخطار وسيجعل الجيش ينتصر على جميع الأعداء؟ وكأن الله يُفضِّلُ لبنان على العراق وسوريا وفلسطين! بالإضافة إلى التجارة الدينيّة بالخوف التي تتجلّى في تخدير المؤمنين بمختلف أنواع الأبنجة المعنويّة والدينيّة!

أمام هذه الظواهر حسبنا أن نتشبّه بالمسيح الذي بحسب إنجيل القدّيس متّى رفض أن يشرب الخلّ الممزوج بالمرارة الذي كان يُستَعمَل لتخدير المحكومين بالصلب، ما يؤدّي إلى إفقادهم وعيهم وتخفيف آلامهم! فمسيحنا رفض أن يسمح لوسائل التخدير بأن تشيح بنظره عن أبيه وعن الحقيقة رغم آلامه الكبيرة و رغم إقباله على الموت! فالدعوة اليوم لأبناء الكنيسة الشرقيّة هي بالحفاظ على الوعي حتّى اللحظات الأخيرة. ورغم كلّ الصعوبات وكلّ الموت فإن من يُبقي نَظَره على الحقيقة، فالحقيقة ستقيمه حتّى وَلو تجرَّع كأسَ الموت بكامله!


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم