الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

خمس قرى لبنانية لا يعرفها أهلها... القصة عمرها 59 سنة

المصدر: "النهار"
مجد بو مجاهد
مجد بو مجاهد
خمس قرى لبنانية لا يعرفها أهلها... القصة عمرها 59 سنة
خمس قرى لبنانية لا يعرفها أهلها... القصة عمرها 59 سنة
A+ A-

كان خوفه الوحيد على الصبية الجميلة من أن يصيبها مكروه. هرب خازم ناصيف في الأحراج، حاملاً شقيقته بين ذراعيه بعدما اندلعت احداث سنة 1958. لم يفكر الشاب المندفع، سوى في حماية "عرض العائلة وشرفها". انها اولوية لدى الجرديين تفوق اي اعتبارٍ كان، حتى دموع الاطفال. ترك اخوته الصغار في منزلهم ، وتكبّد عناء النوم في مغاور الجرود النائية قبل ان تصل به قدماه الى جرد بشري. حطّ الشاب الجردي رحاله هناك لاجئاً، قلبه اطمأن، فسابق الوقت عائداً الى ربوع قريته الحوارة في جرود الضنية لتهريب بقية افراد العائلة منها، وليودّعها في طريقه. لم يكن الوقت يسنح للبكائيات، والتفكير في ما اذا كانت الدار والحديقة وبساتين التفاح والاجاص ستعود لتزهر مجدداً. "سليمان بك فرنجية وحده خلصنا من المهالك"، يقول خازم ناصيف الذي جعّد الزمن تفاصيل وجهه، وخفت صوته، هو ابن 83 عاماً، الشاهد على قصّة عمرها 59 سنة من الانسلاخ عن الارض بسبب الحرب. لا يهتم خازم للماضي، ولا يريد الدخول في لعبة الاصطفافات الطائفية، بل يقول انه على حافة قبره وذاهبٌ لمواجهة ربّه، ولديه اولاد "كل ولد منهن بيسوى عندي الدني" فلا يمكنه ان يكذب في سرد حكايته. بعد انحسار موجة احداث 58، عاد "الحواريون" الى قريتهم، ورمموا منازلهم بسواعدهم. لكن الفرحة تيتّمت باكراً. والتاريخ ما لبث ان اعاد نفسه مطلع الحرب الاهلية سنة 1975، فاذا بالكابوس يفرّق شملاً جمع في ليلة عيد. 

يجاور الحوارة اربع قرى مسيحية هي جيرون وعصيموت ودبعل ودرجة. ويحصى عدد المسيحيين الذين قطنوها قبل الحرب اللبنانية بـ"ألفي مواطن تهجّروا من اراضيهم، واضطر بعضهم الى بيعها بمبالغ زهيدة تحت ضغط الاحداث، او نتيجة الخيبة"، وفق ما يقول ناصيف لـ"النهار". سكن مسيحيو الضنية في قضاء زغرتا، في قرى ارزة وحارة ارزة ورشعين، ونقلوا اسم الحوارة الى زغرتا، هي القرية الام التي كان يجتمع فيها الريفيون المسيحيون من القرى الخمس ويقدّسون في كنيسة مار يوحنا. وفي الحوارة 12 مليون متر من الاراضي الزراعية التي كانت مكسوة ًباشجار الإجاص والتفاح ومبذورةً بسنابل القمح والحمّص والشعير. ويشبّه الجد خازم ما يسرده بفيلمٍ سينمائي. ويقول ان "الانسان لا ينسى المكان الذي ولد فيه وترعرع في ربوعه في اول عمره". لكن لماذا لم تعاودوا المطالبة بالاراضي بعد انتهاء الحرب؟ "لم نرد اللجوء الى مواجهة مع جيراننا. نحن جرديون وهم جرديون، وعقلاتنا كلنا شغل ايدينا وقلبنا كبير". ورغم كل شيء، يتدارك ابن الثمانين عاماً نفسه ويشكر الرب على نعمته، ويروي انه عمل مقابل 5 ليرات في بيع "الطرش" وزراعة الخضراوات لاطعام عائلته. "نحن طراشون ومزارعون وفلاحون، وعندما استقرينا في زغرتا وكدحنا "ريشنا شوي" فاشترينا ارضاً وبنينا المنازل وسكناها". ماذا تطلبون اليوم من الدولة؟ "نريد استعادة حقوقنا المهدورة من خلال ارجاع الاراضي الى اهلها او التعويض علينا بثمنها".

منزل مسيحي واحد

لا تزال اسماء الحواريين واردة في سجلات نفوس القرية. وتحظى البلدة بمقعدٍ اختياري مسيحي يمثّل اهلها الغائبين. ومنزلٌ مسيحيٌ واحد لا يزال مسكوناً في قرى ريف الضنية المسيحية الخمس المذكورة، وهو بيتٌ لعائلة الحزوري الواقع في خراج بلدة عصيموت، ويسكنه رجلُ مسنٌ وعائلته. اما كنيسة مار يوحنا فلم تمس، لا بل انها تنتظر ان يؤمها مصلّوها يوماً. "وعدتنا وزارة المهجرين ترميم الكنيسة، لكن ذلك لم يتحقق حتى الساعة، ذلك ان المسألة شائكة وقد تسبب ذبذبات سلبية في القرية، ما يعني ان المسألة تحتاج تنسيقاً مسبقاً وحماية للبناء"، يقول باخوص ناصيف، ابن بلدة الحوارة الذي يقطن اليوم في ادما. هو الذي لم يعاصر قريته الام، ولم يقرأها بأم عينه. ويضيف ان " المسحيين القاطنين في قضاء الضنية يشكلون اليوم 12 الى 15% من عدد سكان القضاء".

الحكم للقضاء

وأجرت "النهار" حديثاً مع النائب احمد فتفت، الذي تابع الملف المذكور من جوانبه كافة. في رأيه ان "لا احد ممنوعاً من العودة لزيارة كنيسة مار يوحنا، بل ان المبنى محافظٌ عليه ولا يزال قائماً، بل انه محتاجٌ الى الترميم وهذه المسؤولية تقع على رعية الكنيسة نفسها، وليست موكلة على عاتق الاهالي انفسهم". لماذا لم ترجّع الاراضي الى ذويها بعدما انتهت الحرب؟ "سكّان الحوارة المسيحيون والقرى الاربع المجاورة قرروا من تلقاء انفسهم بيعها الى جيرانهم المسلمين بعد ان غادروها ولا احد منهم حتى الساعة برز لنا مستنداً واحداً يؤكد انهم يملكون اراضي مكتوبة باسمهم في الحوارة وجوارها. ويردف: "عندما يجلب لنا احدهم مستندات قانونية تؤكّد ما يقولونه وتدحض مستنداتنا القانونية، نحن موكلون في اعادتها اليهم شخصياً في هذه الحالة". ويضع فتفت المسألة الشائكة في خانة "الحرب الاعلامية القائمة التي تتجدد من وقتٍ لآخر ولا اعرف ما الهدف الحقيقي منها، مذ ان استلمت موقعي، مضى عشرين سنة من اليوم. انه مجرد كلام  والعنوان نفسه يتكرّر، من دون توافر مستندات". ويشدد على مسألة ان "اتمام عملية بيع الاراضي وقّعت في زغرتا، ما يدحض مقولة البيع تحت الضغط". ويعقّب: "لا بل انهم اشتروا اراضي في زغرتا وثمنها اليوم اغلى بكثير من الاراضي التي باعوها". ويختم بعبارة: "مرجعنا هو القضاء".

قد نتفق او نختلف على فكرة ان ابناء الحوارة، "الضيعة الام"، والقرى المسيحية الاربع المجاورة قد بيعت او لم تباع، او بيعت في الاكراه. لكن، ما لا يمكن ان نغفله، ان الحرب هي التي شرّدت مسيحيي ارياف الضنية منها، وهي التي جعلت من اقاصيص الاهل الى اولادهم عنها، حلماً بعيد المنال. وتبقى الخطوة الاولى المنتظرة في الغد القريب، ان تقرع اجراس كنيسة مار يوحنا في الحوارة، ويصدح صداها في الارجاء موحداً الجميع.



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم