الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

القهوة كالمرأة... من يقاومها؟

المصدر: "النهار"
مهى البيضاوي- أخصائية السلامة الغذائية- كاليفورنيا
القهوة كالمرأة... من يقاومها؟
القهوة كالمرأة... من يقاومها؟
A+ A-

نشرب منها 500 مليار كوب في السنة على الأقل، نصفها فقط خلال وجبة الفطور. إنها المادة الأكثر إدمانا في العالم. حوربت وحميت كما تُحمى القلاع، وكانت موضع أخذ ورد بين الرجال والنساء، ناشرة الحب ومانعة الكره. هي نبتة القهوة .


في شهر آذار، شهر عيد الام ويوم المرأة العالمي، بحثنا عن موضوع أو حدث ساهمت فيه النساء بشكل مهم، مباشرة أو مداورة، وكان وقعه عالميا، فلم نجد خيرا من الرفيقة الصباحية، القهوة. ذهب البعض في القدم الى مقارنة القهوة بالمرأة (وهل بقي كيان لم يقارن بالمرأة؟)، ففيهما سحر وشيطنة وكلاهما لا نستطيع مقاوته. فماذا مثلا عن رؤيتنا امرأة سمراء في الاعلانات التجارية تتصاعد من الفنجان الساخن مع علامات اللهب؟. لكن ليست هذه بالضبط هي المساهمة التي تحدثنا عنها، إنما قد تكون إنطلاقة لها وصورة جميلة وأسطورية لمراسم شرب القهوة التاريخية في أثيوبيا التي لا تقودها الا امرأة حتى يومنا هذا . فهي وحدها التي تحمص حبوب القهوة ووحدها التي تفرشها وتقلبها لكي تباركها آلهة الخصوبة والرخاء، ثم تقدمها للشاربين على ثلاث دورات، الأخيرة اسمها بركة .


أليس هناك رابط شديد التماسك بين الخصوبة والبركة والرخاء؟ وعلى يد امرأة؟ لكن أيضا، ليست هذه هي المساهمة التي جعلت القهوة ثاني أقوى مادة تجارية بعد النفط، وإن كانت قد سبقته بقرون؟ فالقهوة انتقلت من أثيوبيا الى اليمن ومنه إلى الجزيرة العربية وبلاد الشام حاملة دائما بعضا من القداسة، اذ ان الصوفيين تبنوها لأنها ساعدتهم على السهر ومزاولة طرق عبادتهم ليلا ونهاراً، وبشكل عام لأنها جاءت بديلا حلالاً من النبيذ الذي أعِدّ من المحرمات مع الاسلام. إلا أن اليقظة المرافقة للقهوة أثارت أيضا المشاكل، لأنها شراب شعبي عند الفقير والغني، في القصور والخانات والحانات.


 


 


تدور حولها الأحاديث بين الرجال الذين تدور حولهم المومسات أو النقاشات الحادة التي تدور حولها الشبهات. وهنا أيضاً ليست هذه هي المساهمة النسائية النوعية لانتشار القهوة، فلا البغاء، رغم توافره، منتشر، ولا فعل التبصير في فناجين القهوة في الحرملك أو بين الحريم هو الحكم الفصل، رغم اعتماد الجاريات على ما يرتسم في الفنجان من ناحية استحسان الحاكم العثماني لهذه أو تلك. وفي الكلام على الاستحسان، يقال إن فنجان القهوة هو أداة تعبير للشابة المقبلة على الزواج، فإن أعجبها المتقدم للخطبة زادت عليها السكر، علامة للقبول، وإن أرادت اختباره زادت الملح، فإن تحمّل وشرب القهوة كلها كان يريدها فعلا ، أما إذا لم يعجبها أساسا فكانت القهوة تأتي بلا سكر ولا ملح. مع وصولها الى الغرب، رغم محاولات العثمانيين الحثيثة الحفاظ على هذه النبتة بجعلها غير قابلة للزرع بواسطة غليها، لعدم إنتشارها، بدأت القهوة تفقد شيئاً فشيئاً من "قداستها"، ولكن ليس من تأثيرها.


خاف الأوروبيون كالنمسويين والإيطاليين من القهوة لخوفهم من التخنيث. فالأتراك يرتادون الحانات وحدهم، يذهبون الى الحمام وحدهم، يلبسون أثواباً، ويُعرف عن حالات كثيرة للمثلية والشذوذ في جيوشهم، عدا عن رواج ظاهرة المخصيين في البلاط العثماني. إلا أن كل هذه المخاوف لم تقف حيال ولع الإيطاليين بالقهوة أولا في فينيسيا وفي مقاهيها التي ارتادها الرجال والنساء على حد سواء .ومن أهم هؤلاء كان كازانوفا الذي لم يحب القهوة بقدر حبه للنساء، لكنها كانت الوسيط للوصول الى قلوبهن وإغوائهن.



على عكس المخاوف الأوروبية الأولى، فقد أحبت النساء الفرنسيات القهوة وارتدن المقاهي لارتشافها مع الحلوى والكرواسان، وملنَ إليها خارج المقاهي، ولا سيما في البيوت وفي غرف النوم بالذات، لأنها على عكس النبيذ، لا تفقد الرجل قدراته وشهوته. وكما جذبت النساء كازانوفا الى المقاهي الإيطالية، ازداد ارتياد الرجال للمقاهي الفرنسية. فأطاحت القهوة استهلاك النبيذ والبيرة لمصلحتها، وكانت النتيجة بزوغ مجتمع المقاهي حيث ظهر وجود الأطفال، حتى بات للجريدة المطروحة للقراءة مع فناجين القهوة مفعول تفاقمت خطورته مع احتدام النقاشات وتدمير الحواجز الاجتماعية، كما تقاربت طاولات وكراسي المرتادين . المشهد نفسه تكرر لاحقاً في بريطانيا، ولكن مع الكثير من المقاومة لمصلحة مجتمع الشاي، أو باختصار، النساء مجدداً. ففي القرن السابع عشر بدأت القهوة بالانتشار هناك، لكن الفارق مع القارة هو أن الرجال وحدهم كانوا يرتادون المقاهي لأن النساء ببساطة كن من المستبعدات. فبدل كازانوفا، حلت المومسات اللواتي حمن حول الحانات لاصطياد الزبائن، الى درجة أن عبارة "كنت أشرب القهوة" باتت تعادل كنت أخونك عندما كانت الزوجة تسأل زوجها أين كان.


 


النتيجة كانت تضامن الكثير من النساء وتقديمهن عريضة وطنية لمنع القهوة في البلاد، التي رغم عريضة مضادة من الرجال، أدت الى تحجيم استهلاك القهوة وتراجعها أمام الشاي . فالبريطاني يستهلك سنوياً قهوة بقدر استهلاك يومين منها للإيطالي. انتشار استهلاك القهوة في شرق أوروبا ووسطها إنتقل الى اميركا اللاتينية عبر علاقة غرامية بين ليوتاننت فرنسي وإمرأة من السلالة الملكية التي أهدته قبل رحيله الى المارتينيك شتلة قهوة وصلت في ما بعد فروعها الى هاييتي. وصول نبتة القهوة الى مستعمرات فرنسا وهولندا أثار غيرة البرتغاليين الذين أرادوها لمستعمراتهم أيضاً، فانتهزوا فرصة خلاف حدودي في غويانا بين الفرنسيين والهولنديين لإرسال وسيط بينهم إستوحى من علاقة الليوتاننت الفرنسي وتهريبه القهوة الى القارة الأميركية فكرته لسرقة نبتة مخصبة. فأوقع في غرامه زوجة حاكم غويانا الفرنسية التي ودعته عند انتهاء مهمته بإعطائه باقة ورد خبأت فيها حبات القهوة في وسط كل وردة. وهكذا كسرت الحصار المفروض على القهوة للتحكم في تجارتها.


قد تكون النساء تحكمن في حركة انتشار القهوة عالميا بشكل تلقائي وعفوي منذ قرون بعيدة، ولكن الآن، ومع هجرة الكثير من الرجال من الجنوب الفقير الى الشمال الغني، تعود النساء الى تسلم زمام الأمور، ليس فقط في تحضير القهوة ومراسمها بل في زراعتها وتصنيعها أيضا، لتكون بهذه الخطوة أقفلت دائرة هذا الشراب الذي أوصلته الى العالمية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم