الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

ثلاثة أفلام وثائقية عُرضت في تسالونيك: علم وحضارة في بلاد الإغريق وعنف عند البيض

ثلاثة أفلام وثائقية عُرضت في تسالونيك: علم وحضارة في بلاد الإغريق وعنف عند البيض
ثلاثة أفلام وثائقية عُرضت في تسالونيك: علم وحضارة في بلاد الإغريق وعنف عند البيض
A+ A-

الرسّام والنحّات والفنّان المعاصر اليوناني كوستاس تشوكليس حلّ ضيفاً على مهرجان تسالونيك التاسع عشر للفيلم الوثائقي الذي عُقد في منتصف الشهر الماضي.


كان سبق لي ان شاهدتُ بعض أعماله بشكل سطحي جداً، ولكني لم أسمعه يعلّق على العملية الابداعية كما اكتشفته في فيلم "ماذا وكيف ولماذا الفنّ" للمخرج اليوناني أندونيس كيوكاس. فجأة: ساعة من الحديث الذي يحض على التفكير. تشعر ان هناك من تتشارك معه الكثير من الأفكار، ولم يصدف انك انوجدت معه في مكان واحد.
يقول تشوكليس إنه تسنى له في حياته لقاء أشخاص لم تسنح لهم فرصة التعلّم، ومع ذلك كانوا يعلمون على رغم أنهم لا يعلمون أنهم يعلمون. في حين التقى آخرين كانوا تعلّموا ومع ذلك لم يكونوا يعلمون أنهم لا يعلمون: "من الذين لا يعلمون أنهم لا يعلمون، اليوم وأنا في مثل هذا العمر، لم أعد أنتظر أي شيء، لأن ما كانوا يعتقدون أنهم يعلمونه بات اليوم ملك الجميع، صار ملك الأجهزة الالكترونية. أما مِن الذين يعتقدون أنهم لا يعلمون، فأنا أتوقع الكثير، بالأحرى أتوقع منهم كلّ شيء".
هذا اليوناني الذي لا يعتبر الولادة في اليونان امتيازاً، عاش وامتهن الرسم في العديد من الأماكن حول العالم أهمها باريس. يؤكد انه وليد حضارات عدة، يحبها ويجلّها كلها. إلا انه يجد نفسه محظوظاً لكونه يتحدّر من حضارة (الاغريق) كانت تمتلك قبل 2500 سنة ثقافة عظيمة. "أن أدرك هذه الحقيقة اليوم، لم يعد يرضيني، ولكن في الوقت نفسه لم يعد يرعبني. لا بل عكس ذلك، أشعر انه يلهمني. القديم هو واقع تم تسجيله في ذاكرتنا، ونحمله داخلنا كنوع من لعنة وبركة في آن واحد".
مراراً، يتصدى تشوكليس للمعرفة التي يعتبرها أحياناً عقبة أمام رؤية واضحة للعالم. يقول: "المعرفة تمنعنا في بعض الظروف من ايجاد الأخطاء التي نقع فيها وبالتالي تفادي الوقوع في أخطاء أخرى قد نقع فيها. عشتُ فترة من حياتي عندما كنت مقيماً في باريس، حيث، كي لا أبدو جاهلاً، ملأتُ رأسي بترهات".
فيلم أولريش زيدل، "سفاري"، الذي شاهدناه في مهرجان البندقية الأخير كان له نصيب من العرض ايضاً في تسالونيك. كالعادة، يعود المخرج النمسوي إلى موضوعه الأثير عن البيض الأوروبيين الذين يضجرون في رفاهيتهم. فبعد السياحة الجنسية التي تمارسها نمسويات في افريقيا، يصوّر زيدل هؤلاء الألمان والنمسويين الذين يقصدون القارة السمراء بهدف صيد الحيوانات البرية واستعمال الفرو والجلد وتحنيط الرؤوس، بعد أن يختاروها من الكاتالوغ. حيوانات تصبح زينة لجدران منازلهم. الفيلم سلسلة من المقابلات مع صيادين من الأعمار كافة. إلى جانبها، ثمة مَشاهد يلتقطها زيدل لنشاطهم الدموي. بدلاً من التركيز على الفريسة، تقف الكاميرا في الخطّ الخلفي، أي خلف الصياد، منتظرة لحظة خروج الرصاصة من البندقية المصوّبة بدقّة في اتجاه الحيوان، ملتقطةً الفرح الذي يثيره سقوطه. الآلية نفسها معتمدة دائماً: لا نرى إلا الفعل، لا ردّ الفعل الذي يأتي بعد لحظة. ثم يمضي الصيادون في البحث عن فريستهم التي سقطت على بُعد أمتار من موقع الجريمة. هؤلاء الذين يعاملهم السكان المحليون كالأسياد، لا يكتفون بهذه الأفعال المشينة، بل يلتقطون الصور مع الحيوانات المرمية أرضاً وعلى وجوههم ابتسامات فخر عريضة.
في محاولة زائفة لفهم هذه السياحة الوحشية ومبرراتها ومردودها النفسي والمعنوي، يتأمّل زيدل ببرودة الظاهرة السقيمة. فالمبررات التي يأتي بها الصيادون تراوح ما بين المثير للشفقة والمضحك. أحدهم يدّعي أنّ الصيد هو لمصلحة الحيوانات، على سبيل المثل. في مشهد آخر، يسأل زيدل عن هوية الحيوان الذي يرغب كلّ صياد في قتله. "أسد، فيل..."، تتوالى الأجوبة. الدنيا أذواق. إلى ذلك، لا ينسى الفيلم الظروف التي يعيشها سكان ناميبيا الفقراء المنبوذين من الجهات الرسمية، وهي ظروف تبرر تعاملهم مع السياح مقابل فتافيت ينالونها منهم.
للأميركي تشارلي سيسكل عُرض "فوضوي أميركي". عمل ينبش في تجربة وليم باول الاستثنائية التي تتردّد أصداؤها (السلبية) إلى اليوم. تبدأ حكاية باول في العام 1971، عندما يؤلف كتاباً ثورياً يدعو فيه إلى معاداة السلطة الأميركية. هكذا يولد "أناركيست كوكبوك"، حيث يشرح بالتفاصيل كيفية صناعة قنابل يدوية لمواجهة الحكومة، كما يكشف الوصفة لصناعة المخدرات في المنزل. نحن في زمن الـ"هيبّيز" ونشوء الثقافة المضادة، وصعود التيارات الراديكالية الطامحة إلى التغيير في سياسة أميركا، والتصدي لأي تدخّل عسكري لها في بلدان بعيدة. يضع باول الكتاب نتيجة إحساسه بالغضب العارم. آنذاك كان في التاسعة عشرة، ولم يعِ في حمأة الحوادث تداعيات إصدار بيان خطير كهذا. "لا يمكن الحصول على الاحترام إلا بسفك الدماء"، كتب على إحدى صفحات الكتاب الذي سُمح بنشره حرصاً على حرية التعبير!
إلا أنّ المبيعات المفاجئة التي بلغت مليوني نسخة أخرجت الأمور عن السيطرة. فما كان مجرد طيش شبابي أصبح يطارد الرجل حتى في أواخر الستينات من عمره، خصوصاً أنه عُثر على الكتاب في حوزة معظم الذين ارتكبوا مذابح وهجمات إرهابية ومقاتل جماعية ووجدوا فيه ما يروي غرائزهم، بدءاً من مذبحة ثانوية "كولومباين" العام 1999.
لم يعِ باول أنّ كتابه بات مصدر وحي للقتلة، إلا بعد هذه المذبحة التي راح ضحيتها 12 طالباً. في كل حال، أدرك باول بعد مدة قصيرة من صدور الكتاب، أنه لا يمكن التصدّي للعنف بعنف مشابه، فحاول مراراً التنصّل منه، مرةً عبر تعليق على صفحة "أمازون"، حيث يمكن شراء الكتاب، ومرة عبر مقال نُشر في صحيفة الـ"غارديان" العام 2013، شرح فيه موقفه الصريح والواضح مما سبق وكتبه، وخصوصاً أنه في السنوات الأربعين الأخيرة من حياته مارس مهنة التعليم، مهنة تتناقض شكلاً ومضموناً مع فكرة التحريض على العنف. وهو أيضاً دفع ثمن تأليفه الكتاب باهظاً، إذ أنه في كلّ مرة كان يتقدّم فيها لطلب وظيفة، تتسلّم الجهة المسؤولة بتوظيفه من مجهولين رسالة يطلبون فيها عدم قبول ترشيحه. ومن سخرية القدر أنّ مرتكبي المذابح الذين استندوا إلى كتابه، قتلوا طلاباً...
هكذا، راح "أناركيست كوكبوك" ينتشر أكثر مع وصول الانترنت، وإن عاد تاريخ نشر الطبعة الورقية من الكتاب إلى العام 2012. فطوال كلّ هذه السنوات، لم يحظَ بالملكية الفكرية للمطالبة بعدم معاودة نشره. إنه نموذج واضح عن استحالة استرداد الكلمة، فهي أشبه ما تكون بالطلقة النارية.
ما يطمح إليه المخرج تشارلي سيسكل مع هذا الفيلم (الطويل الثاني له)، هو خلق سجال حول المسؤولية الفردية للكاتب. فأين تقع مسؤوليته من جرائم لم يرتكبها، إنما قد يكون ساهم في الإيحاء بها أو تسليم أدواتها للقاتل؟ وهل صانعا مسدس سميث وويسون مذنبان مثلاً مع كلّ طلقة تخرج من مسدسهما؟ ينبغي القول إنّ المخرج طرف فعّال في الفيلم، ليس مجرّد ناقل للحوادث، لا بل محرّض على الكلام. فاللقاء بين الرجلين يبدأ بهدوء تام وهما يتحدّثان في المطبخ، ليبلغ حالاً من التوتر والانشداد كلما تقدّم الفيلم إلى الأمام ولاحت أسئلة تحمّل باول الذنب. منذ البداية، يتّضح أنّ باول يريد التبرؤ من الكتاب، فهو يقول مثلاً إنه لا يمتلك نسخة منه في بيته، وفي الوقت عينه لا يبدي أي استعداد لمناقشته أو الاشارة إليه كمصدر للعنف. الاعتراف بهذه الحقيقة سيأتي على مراحل، بعد إصرار من جانب سيسكل، لنخرج على إثره باستنتاجات مختلفة. انطلاقاً من الارتباط المفترض بين نصّ غير مسؤول من جانب، وعمليات قتل عن سابق تصميم من جانب آخر، يطرح "فوضوي أميركي" مسألة القراءة الحرفية لأفكار انفعالية طواها الزمن، وهي في أشد الحاجة اليوم إلى إعادة نظر.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم