الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

لم أرَ الله في إدلب

عقل العويط
عقل العويط
لم أرَ الله في إدلب
لم أرَ الله في إدلب
A+ A-

كان لا بدّ لقتلى إدلب من أن يصعدوا إلى السماء بحثاً عن الله الذي لم يعثروا عليه في بلادهم الثكلى.


كان لا بدّ لهم من أن يحملوا أجسامهم وأسرّتهم المخلّعة، هم الذين كانوا يحلمون بأجسامٍ لذيذةٍ وأسرّةٍ مريحةٍ تخفّف الألم في مفاصلهم المفكّكة.
كان لا بدّ لهم من أن يبتسموا في مراياهم، وفي خلاياهم المريضة، كي لا يشعروا بالوحشة.
كان لا بدّ لهم من أن يلعبوا، ويضحكوا، ويختبئوا في راحات أيديهم، وكان لا بدّ لهم من أن يتبدّدوا في غيوم عيونهم، ومن أن يولدوا من جديد، كي يظلّوا أطفالاً.


كان لا بدّ لهم من أن يتخلّوا عن أجسادهم المهيضة، وأن يصيروا أرواحاً، كي يستريحوا من عناء طفولاتهم المضرّجة.
كان لا بدّ لهم من أن يكبروا فجأةً، وأن يصبحوا شيوخاً وعجزة، كي ترشدهم عكّازاتهم إلى قبورٍ عارية يتمدّدون فيها تحت الشمس، وتحت قمر الشمس.
كان لا بدّ لهم من أن يبحثوا عن الله في كلّ مكان، من أجل دعوته إلى وليمتهم اللئيمة.
كان لا بدّ لهم من أن يصرخوا بأصواتهم المرتجفة الصغيرة: أين أنتَ يا الله. نحن نريدكَ معنا لتكون بعضاً من أجسامنا وطعامنا حول المائدة السرمدية؟!
كان لا بدّ لهم من أن يصرخوا كثيراً، وكان لا بدّ لصراخهم من أن يتردّد في المدن والدساكر، وفي الأمكنة الخالية، وفي العدم كلّه، لكن من دون أن يحصلوا على جواب.


يا للصفاقة!


في الأخير الأخير، بعدما أتعبهم الصراخ، وبعدما بحّت أصواتهم، وزاغت عيونهم من شدّة البحث، ذهبوا خائبين لأنهم لم يعثروا على الله، ولأن الهواء الجبان لم يحملهم على بساط جناحيه في سفرهم الأبديّ الحزين.
كان لا بدّ لهم من أن يناموا عميقاً، وأن لا يستيقظوا، كي لا يروا... يا الله!


***



مَن أنا لأعاتبكَ؟ أو لأغضب؟ أو لأكفر؟ أو لأقول لا؟
مَن أنا الذي لم يعثر عليكَ في حياته، ولا في حياة أحبّته الذين ماتوا؟
مَن أنا الذي لم يعثر عليكَ في إدلب، ولا في بلاد الشام كلّها، ولا في سواها من الأمكنة؟!
أَلاَ تذكر كم بحثتُ عنكَ في فلسطين، في بيت لحم، في الجليل، في البحر المقدّس، في دروب الإسراء والمعراج، في قبّة الصخرة، في كنيسة القيامة، في جبل الزيتون، في القدس الشريف، وفي فلسطين – أرضكَ المغتصَبة كلّها؟
أَلاَ تذكر اليمن الذي ليس سعيداً؟
أَلاَ تذكر كم بحثتُ عنكَ في مأساة العراق، وهي بلاد الرافدين؟ وماذا فعل بي أتباعكَ الأرضيّون السفَلة يومذاك، في رسالتي تلك إليكَ في 11 آذار 2003، عشية الحرب الأميركية على بلاد ما بين النهرين؟
أَلاَ تذكر لبنان، يا الله، وكم تركتَه وحيداً، ولا تزال؟
أسألكَ أين أنتَ؟ وأعيد السؤال: أين أنتَ؟ وأكرّر: أين أنتَ؟
وكما استدعاكَ أسلافي الشعراء، ولم تستجب، أنا نفسي أستدعيكَ، وإنْ لم تستجب.
قلْ لي: أين أنتَ؟
يؤلمني أني لا أعثر على نسمةٍ من هوائكَ في ديارنا الشرقية هذه، ولا على ورقةٍ خضراء واحدة من شجرتكَ التي يُقال دائماً إنها الشجرة الخضراء البهيّة.
أين أنتَ يا الله؟! ولماذا لا يعثر أحدٌ من هؤلاء القتلى الشهداء الأطفال وغير الأطفال عليكَ؟
لقد اكتشفتُ – يا للمفارقة – أنّ ثمّة إلهاً آخر في ديارنا الشرقية، وأنا قد رأيتُه هنا، هناك، وهنالك، بأمِّ عينيَّ، في إدلب، في سوريا جميعها، في الهلال الخصيب، في فلسطين، في العراق، وفي لبنان.
هذا الإله الآخر، يا لله، هو ذاته لم يتورّع أمس عن إطلاق الضحكة الهستيريّة أمام الأطفالِ المسجّاةِ أجسامُهم الصغيرة العارية كأنّهم في مشهدٍ افتراضيّ.
صورتهم الجماعية، كأنما التُقِطت بعدسةِ مخرجٍ باهر، وهم يغطّون في سريرٍ سينمائيٍّ عميق، ليس فيه فسحةٌ للأنفاس المخنوقة في مهادها.
العالم كلّه رأى هذا المشهد. ورأى أيضاً ذلك الإله الآخر.
العالم كلّه يصفّق لذلك الإله الآخر. ويتغاضى. والإله الآخر يضحك. ويضحك. ويضحك.
أما أنا فلا أصفّق له. ولا أضحك. ولن أتغاضى.
وكم يهينني ويؤلمني أن أصف هذا الإله وأن أسمّيه.
وها إنّي أسمّيه.
وأنا أسمّيه نظام الأسد. وأسمّيه "داعش". وأسمّيه التكفير. وأسمّيه العرب. وأسمّيه فلاديمير بوتين. وأسمّيه خامنئي. وأسمّيه أردوغان. وأسمّيه الولايات المتحدة الأميركية.
وفي المختصر المفيد، أسمّيه الإله القاتل.
أما هؤلاء الأطفال المسجّاة أجسامهم البضّة، فهم فرائسه الجدد، وقتلاه الجدد، وقد التحقوا أخيراً بالقافلة الموجعة.
لن أسمّي هذا الإله الآخر إسرائيل. لأننا نحن العرب إسرائيل.
وإلى الآن، أنا أبحث عنكَ، يا إله الأطفال، ولكني، على غرار هؤلاء الأطفال، لا أعثر عليكَ، يا الله!
[email protected]




 







حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم