السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الوطنية الواعية تعني التصويت بالورقة البيضاء

الأب صلاح أبوجوده اليسوعي
A+ A-

هل من تفسير لحالة الانتظار السلبي وعدم الإكتراث اللتين تسودان غالبية الأوساط الشعبية إزاء أزمة سنّ قانون انتخاب جديد، غير تأقلم اللبنانيين عمومًا مع أسلوب التسويات الذي يتحكّم بصياغة المشهد السياسي المحلي أو استسلامهم له؟ فقلّما يشرق صباح إلاّ ويبرز معه مشروع تسوية جديد للأزمة: فمن النسبيّة إلى المختلط إلى إحياء الستّين إلى إنتاج الستّين معدّلاً إلى الأرثوذكسي، واللائحة تطول. وليس من ردّ فعل شعبي قوي يسأل ويُسائل عن أسباب هذا التقلّب الدرامي السريع ومعانيه. لقد بات أسلوب التسويات الذي يعني تفاهم اللاعبين السياسيين الأقوى على حفظ مصالحهم الضيقة، والذي يُتَّبع خارج الدستور ومؤسّساته، أمرًا واقعًا اعتاد عليه اللبنانيون، في حين أنه يسير بالبلاد من سيّئ إلى أسوأ على المستويات كافة. وبكلام آخر، إذا كان التقلّب السريع في طرح الصيغ الانتخابية يدلّ على غياب البرامج السياسية الجدية والرؤى الوطنيّة الجامعة عن خطاب الممسكين بالمشهد السياسي، فإنه يبيّن في الوقت عينه اطمئنان هؤلاء اللاعبين إلى عدم إمكان قيام مساءلة شعبية جدية.


لذا، مهما طالت الأزمة الراهنة، لن يكون للبنانيين في نهاية المطاف إلاّ قانون انتخاب قائم على معيار واحد ألا وهو ضمان الحصص البرلمانية لكبار اللاعبين السياسيين وربما زيادتها؛ أي لن يكون له ثمة معايير موضوعية ووطنية ودستورية. وبالتالي، لن يكون المجلس المقبل إلاّ إعادة إنتاج للسلطة نفسها. وفي ضوء هذا المشهد، يُطرح سؤال أساسي على المواطنين الذين يرفضون الأمر الواقع، ويطمحون بصدق إلى قيام دولة المواطنة الكاملة والقانون والمؤسسات: هل يجب التصويت وقت الانتخابات أم لا؟ هل عدم التصويت خير من التصويت؟ فمما لا شك فيه أن التصويت سيخدم السلطة المقبلة (الجديدة-القديمة) بصفتها سلطة تسويات على الطريقة اللبنانية، إذ سيساهم في تثبيت نهجها والاستسلام السلبي له. ولكن، في الوقت نفسه، لن يحول عدم التصويت دون قيامها. ويتفاقم المأزق بسبب ضعف التشكيلات السياسية اللاطائفية البديلة التي لا تترك لها التشكيلاتُ الطائفية المهيمنة على الحقل السياسي والوظيفي والخدماتي والإعلامي، والقادرة على توظيف العصبية الطائفية بفعالية، إلا هامشًا ضيقًا جدًا للتعبير عن نفسها، والتي لن يكون لها إلا مثل هذا الهامش أثناء الانتخابات المقبلة .
يجمع العديد من علماء السياسة والفلاسفة الأخلاقيين على أن التصويت في الديموقراطيات الحديثة واجب أخلاقي. ويرتبط هذا الواجب بوعي المواطن مسؤوليتَه في تحسين حياته وحياة مجتمعه، أي دوره في اختيار الأفضل له ولغيره. فالمشاركة في الانتخابات تزيد التزام المواطن في الشأن العام بناءً على برامج متكاملة متنافسة على خدمة الخير العام، تُعبِّر عنها الأحزابُ السياسية. ولكن عندما نُمعن النظر في المجادلات المحلية المتصلة بموضوع الانتخاب، وبصرف النظر عن القانون الذي سيصدر عنها، نجد أن حافزها الوحيد صراع على تقاسم مسبق للمقاعد النيابية بين القوى الطائفية الرئيسية. لذا، ليس الانتخاب دعوة إلى اختيار الأنسب أو الأفضل للبلاد، بل، بالعمق، إلى تحاشي الأسوأ، والقصد به مخاطر تراجع تمثيل طائفة معينة تسعى القوى الأساسية فيها إلى احتكاره وتماثل نفسها به، لصالح طائفة أخرى. وإذا أضفنا إلى ما تقدّم انعدام حظوظ القوى البديلة اللاطائفية، فهل الامتناع عن التصويت أفضل من التصويت بالنسبة إلى الذين يرفضون الأمر الواقع؟
يكتسب التصويت بورقة بيضاء أهمية كبيرة في ظل هذه الأوضاع. فعدم التصويت، كما سلف القول، لن يؤثّر في وصول مكونات المشهد السياسي الأساسية إلى البرلمان. في حين أن التصويت بورقة بيضاء سيساهم، من جهة، في تعزيز حضور القوى اللاطائفية والدستورية البديلة، ومن جهة ثانية، في خلق حالة وطنية رافضة الأمر الواقع، تفسح في المجال لتفتّح متزايد للوعي الوطني اللاطائفي؛ وعي يمكن القوى البديلة أيضًا أن تسعى إلى عقلنته وترجمته في برامج وطنية متكاملة.
من المسلم به في تاريخ نشأة الأمم، أن الوعي الوطني بصفته شعورًا بالانتماء إلى أمة واحدة، يولد ويتقوى نتيجة خطاب قيادي براغماتي، يُسميه بعضهم عمل النخب. وبهذا المعنى ليس الانتماء الوطني مسألة عفوية، على رغم أن له عناصر واقعية تقوم النخب بعقلنتها وتظهيرها وتوظيفها. وعندما نراجع الخطاب النخبوي السائد في لبنان منذ ما بعد الطائف إلى اليوم، نلاحظ مراوحته بين المنحى الصدامي - الطائفي والتوفيقي - الطائفي، وبالتالي خلوه من كل مضمون يذهب باتجاه تنمية الشعور اللاطائفي الذي تعيشه شريحة كبيرة من اللبنانيين وعقلنته. بل، على نقيض ذلك، ينتهج هذا الخطاب بطريقة تصاعدية لغةً تثير العصبية الطائفية، وهي قوة غامضة عنيفة وعدائية. وهذا ما يولّد شعورًا عامًّا مستمرًّا بعدم الاستقرار، لأن الخوف الباطني أو الظاهري من تحول العصبية الطائفية المتفاقمة إلى وحش قاتل خوف حقيقي ومبرر.
لا تنقص عناصر الوعي الوطني اللبناني؛ وهي لا تقتصر على القيم المشتركة بين اللبنانيين وفي طليعتها الحريات العامة والخاصة، ولا على العادات والتقاليد المشتركة، ولا على الرغبة في العيش معًا التي تبقى غامضة، إذ لم تُترجم بعد في برامج تؤدي إلى انصهار فعلي. بل هي تشمل أيضًا نتائج تاريخ مليء بصراع أيديولوجيات قومية ودينية مرير، ونتائج الحروب الدائرة في المنطقة بأسرها التي تظهر كوارث الأنظمة التسلطية وجمود الفكر الديني الذي يذكّر بقول جان جرسُن: "ليس من حيوان أخطر من لاهوتيّ من دون منطق".
إذا كان الوعي الوطني يحتاج إلى إبراز عناصره المكونة وعقلنتها، فتحويله إلى حالة شعبية قوية يحتاج إلى خطاب نخبوي جديد، يمكن القوى اللاطائفية والدستورية البديلة أن تقوم به. ولا شك أن التصويت بورقة بيضاء سيكون بمثابة زخم تستند إليه هذه النخبة.


(أستاذ في جامعة القديس يوسف)

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم