الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

بيت بيوت في باريس

المصدر: النهار
كاتيا الطويل- باريس
بيت بيوت في باريس
بيت بيوت في باريس
A+ A-

رحلة البحث عن بيت في باريس كرحلة البحث عن وليد مسعود. مأساة تراجيديّة يعلم الجميع أنّ نهايتها غير سعيدة. تبحث عن بيت بتفاؤل وتجهل أنّ الواقع لا بدّ من أن يصفعك في وقت من الأوقات. لا تزال ساذجًا، تجهل مصائب الأمتار المكعّبة الفرنسيّة التي ستهلكك لا محالة.


تصل إلى باريس وأنت تحلم بالبيت الفرنسيّ المميّز. ذاك البيت الذي يقع في مبنى أوسمانيّ صمّمه صديقك البارون أوسمان (Georges Eugène Haussmann) على عهد نابوليون الثالث ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر. فتجد أنّ المباني الأوسمانيّة التي تشكّل حوالى 60% من المباني الباريسيّة هي فعلاً مبانٍ رائعة لا تتعدّى الستّ طبقات، وتتميّز بأناقتها وأريستوقراطيّتها. وتكتشف محض مصادفة أنّ الطبقة الثانية من كلّ مبنى أوسمانيّ هي طبقة النبلاء، فقد خُصّصت هذه الطبقة ببلكون صغير وتميّزت عن غيرها بكونها مسكن أهل الطبقة المخمليّة، بينما الطبقات الأخرى مخصّصة للموظّفين والخدم وغيرهم. وكلّما علت الطبقة انخفض شأن سكّانها.


تشعر بـ"خبطات" قلبك الذي يهفّ إلى الطبقة الثانية والبلكون والكرواسان بين أحضان باريس. لكنّك تكتشف أنّك في مأزق. فتكتشف أنت الحديث الإقامة في باربس ثلاثة أمور عن البيوت في هذه العاصمة الأنيقة.
أوّلاً، البيت في باريس ليس بيتًا. هو فعليًّا علبة كرتون صغيرة بالكاد تضارع وسع غرفة نومك في لبنان.
ثانيًا، كلّ شيء في البيت الباريسيّ يتغيّر، الكنبة في النهار تصبح سريرًا في الليل، طاولة الطعام صباحًا تصبح طاولة درس في المساء ومنضدة لتعليق الملابس في الليل. المطبخ صباحًا يتحوّل إلى غرفة جلوس مساءً عند تلقّي اتّصالات من الأهل والأصدقاء في لبنان.
ثالثًا وأخيرًا، حيطان البيوت في باريس ورقيّة رقيقة تنقل الأصوات والسعلات والضحكات وكلّ ما عدا ذلك. عذرًا على سرقة عنوان الحملة ضدّ النفايات، "كلّن يعني كلّن"، إنّما هنا الأصوات كلّها تنتقل. "كلّها يعني كلّها".


تستيقظ في باريس كلّ صباح مرعوبًا. تستيقظ على صوت باب بيتك يُفتح. فتنتزع نفسك من سريرك ظنًّا منك أنّ أحدهم يقتحم علبتك. تهرع إلى الباب مذعورًا لتجد أنّ جارك في الشقّة المجاورة إنّما هو الذي يفتح باب بيته الملاصق لباب بيتك ليخرج إلى عمله. تستيقظ كالمجنون كلّ صباح على صرير باب الجار وتبتسم. لا بأس. لم يدخلوا بيتك بعد. إنّه الجار ذاهب إلى عمله.


مسألة "الجار قبل الدار" هذه، لا وجود لها في القاموس الباريسيّ. فمنذ وصولك إلى باريس وأنت لم ترَ وجه أيٍّ من جيرانك. تسمع أصواتهم فقط من خلف الجدران كأنّها آتية من كواليس مسرحيّة ستعرض مساء الأحد. قد ترى ذات مساء، ظَهر إنسان يهرع إلى علبته الكرتونيّة. فتحثّ الخُطى لتلحق بطيف الجار الذي أمامك. تشعر بالأدرينالين يتخبّط في عروقك. "تتلقّط" بجارك على الدرج وتحاول أن تفتح حديثًا معه. تقول بلهجة أنيقة مهذّبة Bonsoir Monsieur لكنّك بالكاد تلقى إجابة. فتعود إلى علبتك في الطبقة السادسة، تجلس بصمت في أمتارك المكعّبة الصغيرة وتروح تفكّر في أوسمان وتلعنه في سرّك بعيدًا عن آذان التاريخ.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم