الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

أينَ ضاعت "الـمناصفة"؟

ريـمون شاكر
A+ A-


وهكذا، أدرك "شهرزاد" الصباح فسكـتت عن الكلام الـمُباح... بسحر ساحر إختفت كلمة "مناصفة" من أفواه النواب والزعماء، وحلّت مـحلها كلمة "نسبية"، وكأن "الـمناصفة" منّة، تـحتاج إلى رضى آلـهة الأرض والسماء، ويـجب إستجداؤها مرة جديدة من الدول التـي رعت إتفاق الطائف ومن أصحاب النفوذ والأحجام الكبيـرة، لا حقاً كرّسه الدستور، وأكّدته وثيقة الوفاق الوطنـي.
قبل الطائف، كان الـميثاق الوطنـي غيـر الـمكتوب، هو الإتفاق الذي نظّم أُسُس الـحكْم فـي لبنان منذ عام 1943، وكانت نسبة النواب فـي البـرلـمان بيـن الـمسيحييـن والـمسلميـن على قاعدة 5:6 على التوالـي. وبعد خـمس عشرة سنة من الـحروب والدمار وعشرات الآلاف من القتلـى والـجرحى والـمعوّقيـن، توصّل الـمجتمعون فـي الطائف إلى إتفاق على مـجموعة من الإصلاحات السياسية، وكان أهـمّها توزيع مقاعد مـجلس النواب مناصفةً بيـن الـمسلميـن والـمسيحييـن.
إذاً، إن الـمناصفة أو الشراكة الـحقيقية بيـن الـمسيحييـن والـمسلميـن التـي لـحظها إتفاق الطائف فـي الـمادة 24 من الدستور، هي مسألة ميثاقية تتخطّى أيّ إعتبارات أخرى ديـموغرافية كانت أم سياسية، والتفريط بـها يسبّب تـهديداً للوحدة الوطنية، ويعرّض هذه الوحدة للإهتـزار، مـمّا يتطلب من الـجميع إستدراك خطورة الإستـمرار فـي الـخلـل على الصعيد البنيوي للنظام اللبنانـي إنطلاقاً من قانون الإنتخاب.
ماذا تعنـي الـمناصفة؟ هل هي مـجرّد أعداد نسجّلها ونـجمعها فنحصل على رقم 64؟ وهل هي مسألة حسابات وأرقام نكتبها على أوراق صفراء مـهتـرئة تتطاير مع كل خريف؟ كلا أيـها السادة، إن الـمناصفة هنا تعنـي إنصاف وعدل، وبالفرنسية Justice، فأين العدالة فـي أن يصل إلى مـجلس النواب نواب لا يـمثّلون شعبهم، أو نواب لا تعرفهم "شعوبـهم"، فضيلتهم الوحيدة أنـهم يـُحسنون التـزلّف والـتملّق والإستـرهان، أو أنـهم من أصحاب الثـروات الكبيـرة والـمصالـح الـمتشعّبة، ويُـحسنون الصعود إلى البوسطة الـمُناسِبة التـي يقودها أحد شيوخ القبائل الكبار.
إن التـمسّك بالقوانيـن التـي تلحظ لوائح إنتخابية متعدّدة الطائفة، إن كانت وفق النظام الأكثـري أو النسبـي، يعنـي عملياً الإجهاز على الأقلية وعلى الـمجتمع الـمدنـي، وعلى الـمستقليـن وغيـر الـحزبيـيـن، والقضاء على كل الفئات التـي لـها حيثية فـي الـمجتمع. لا يـمكن لأيّ قانون أن يُدعى عادلاً ومنصفاً "إذا لـم يستطع كل مواطن لبنانـي أن يتقدم للإنتخابات دون أن يكون تابعاً لـحزب أو مـجموعة". هذا ما قاله البطريرك الـمارونـي، وهذا ما نـردّده فـي كل مقالاتنا. ذلك أن الأحزاب فـي مـجتمعنا الطوائفي هي أحزاب طائفية، لا أحزاب برامج ومبادئ ورؤى، ولا يـجمعها مع بعضها البعض سوى الـمصالـح الإنتخابية والسلطوية وتوزيع الـمغانـم والـمناصب على الـمحاسيب والأزلام وأبناء الطائفة الـمحظوظيـن.
لا يـجوز أن يكون هدف قانون الإنتخاب فـي مـجتمعنا الـمُتعدِّد "إعطاء كل فئة حجمها الـحقيقي"، لأننا بذلك نكون قضينا على الـمناصفة نـهائياً وخالفنا الدستور والعرف والـميثاق. فالأحجام معروفة سلفاً والديـموغرافيا العددية واضحة جداً ولا تـحتاج إلى كومبيوتر متطور أو إلى خبيـر فـي العلوم الإكتوارية.
نعم، النسبية تُظهر الأحجام على حقيقتها، ولكنها تقضي على التمثيل الصحيح لكل الأقليات وعلى الـمناصفة الفعلية التـي أقرّها الدستور. فالدستور أيها السادة، لـم يتكلّم عن الأحجام، بل تكلّم عن الـمناصفة والعدالة والمساواة.
أنا مع النسبية الكاملة عندما يصبح لدينا أحزاب عابرة للطوائف تتنافس على برامج ومبادئ وتطلّعات وطنية، لا على مصالـح مذاهبها وطموحاتـها الفئوية. لا يـجوز ومن غيـر الـمقبول أن ينادي البعض بالنسبية فـي بلد لا تتعدّى فيه نسبة الـمسيحييـن 34 فـي الـمئة من شعبه، وبوجود خلـل ديـموغرافـي يـتـزايد يوماً بعد يوم.
كما لا يـجوز أن ينادي البعض بالـمختلط بعدما لـمس الـجميع النتائج الكارثية لقانون "الستيـن" على الـمسيحييـن. أليس الـمختلط بشقّه الأكثري هو نسخة طبق الأصل عن قانون "الستيـن" السيئ الذكر؟
ليست مهمّة قانون الإنتخاب أن يـجمع ويوحّد ويزرع الـمحبة والـمواطنة فـي عقول وقلوب الناس، كما ليست مهمته توحيد الرؤى حول السيادة والسلاح الشرعي وقرار الـحرب والسلم والنأي بالنفس. إن مهمّة قانون الإنتخاب واضحة ومـحدّدة فـي كل دساتيـر العالـم، وهي التمثيل الصحيح لكل فئات الشعب بـحيث لا تشعر أيّ فئة بالغبـن والظلم والتهميش.
فـي نظام "اللوائح" الأكثـري أو النسبـي، لا يعود للصوت الأقلي قيمته، لا بل يضيع ويُـمعَس تـحت أقدام زعماء الطوائف الأكثـر عدداً حيـن يؤلّفون لوائـحهم. فالبوسطات والـمحادل ليست حكراً على النظام الأكثـري، بل تشمل أيضاً النظام النسبـي الذي يقتـرحه بعض زعمائنا، وكل نظام يعتمد اللوائح الفضفاضة فـي قانون الإنتخاب.لـن أردّد ما قلته دوماً عن القانون الأفضل والأنسب لـمجتمعنا، فأنتـم تعرفونه جيداً، ولكنكم لا تريدونه، لأنكم تـجهلون نتائجه، ولأنه سيقزّم حصصكم "الـمنفوخة" والـمسروقة من حصص الطوائف الأخرى.
يقول جان جاك روسو: "رصيد الديـموقراطية الـحقيقي ليس فـي صناديق الإنتخاب فـحسب، بل فـي وعي الناس".


باحث وكاتب سياسي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم