الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

خلعت عنها التاج ورداء الملك وظلّ صوتها هادراً ملكةً لكلّ الأدوار ميراي معلوف كيف تراها تعيش خارج حدود المسرح وجحيمه؟

مي منسى
خلعت عنها التاج ورداء الملك وظلّ صوتها هادراً ملكةً لكلّ الأدوار ميراي معلوف كيف تراها تعيش خارج حدود المسرح وجحيمه؟
خلعت عنها التاج ورداء الملك وظلّ صوتها هادراً ملكةً لكلّ الأدوار ميراي معلوف كيف تراها تعيش خارج حدود المسرح وجحيمه؟
A+ A-

صوتها في الذاكرة حيّاً. فمهما غابت ميراي معلوف عن لبنان ونأت، هي تلك الخامة المتأجّجة من أحشائها، تعيد رسم ملامحها وتصقل بنيان نساء التراجيديا اللواتي صبغنها بسواد مصائرهن. فما إن تفرد لها الخشبة مساحة لصوتها الهادر، حتى يكتمل المشهد، إمرأة من ضلع المسرح، تتقمّص الشخصية حتى الذوبان فيها، فتغدو بكلّيتها تلك الأخرى، من غائبة في تاريخ النسيان، إلى حاضرة من لحم ودم، تعيد ولادتها كلّما ناداها المسرح، لا نسخة عنها، بل نذر مقدّس في انغماسها بها.


جوليا دومنا دخلت زمن "مهرجان البستان"، أمبراطورة من تاريخ هذا الشرق القديم الذي لا يزال يتذكّر أقدار نساء اعتلين السلطة وتوّجن ملكات، بالخير والشر، بالحنكة والذكاء، كما بالإغواء والخيانة، فنقش أسماءهن على جدار التاريخ. ففيما جمهور المهرجان يستعيد يوماً بعد يوم، حياة سميراميس وكليوباترا وشهرزاد وديدون وغيرهن في المؤلّفات الأوبرالية الشهيرة التي خلّدت أقدارهن، وبأصوات محترفة أنشدت الحب والمجد والخيانة والإنحطاط، أتت ميراي معلوف من بينهن معتمرةً تاج الأمبراطورية الرومانية، متدثّرة بخمس طاقات من ملابس الحرير والقصب، وفي حنجرتها لا نشيد ككلّ الأناشيد، ولا ترانيم صلاة، بل صوت هادر، ملء الكون، تعالى بوحاً وصلاة، وبخوراً أمام الإلهة عشتار، ربة الكون، حارقاً من مبخرة أحشائها، متعالياً من صدرها المذبوحة أمومته.
كرؤيا من ذلك الزمن البعيد، دخلت جوليا دومنا محتجبة عن النظر بنقاب أحمر شفاف، وفي ظلّها وصيفتها الصمّاء، كاتمة أسرارها. سيرينا شامي، صبيّة شفافة كالخيال، ازدادت بثوبها الأبيض نصعاً ورقة. صمتها تعبيراً أقوى من الكلام، حين لوجودها معنى العزاء، وبقلبها النابض على إيقاع مأساة سيّدتها، مداواة لقلب جوليا الجريح، هي الأمان تسعى إلى إيصالها إلى الموت بإجلال يليق بالكبار.
دخلت ميراي معلوف بخطى متئدة، تجرّ أثواب الملك المتدثّرة بها، تلك التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من لحمها كلما حملت بجوليا دومنا في ذاكرتها وضميرها وأحشائها، وجالت بها بإخراج شريف خزندار، مدن الغرب والشرق. كان ذلك العام 2004 وآخر مرّة كانت لها على "مسرح مونو" إلى أن عادت بعد اثنتي عشرة سنة إلى "البستان"، تعيش شخصيّة جوليا دومنا المشرقيّة الفذة، بأصالة الفنانة المتعمّدة في ميرون المسرح التراجيدي، المحترقة في جحيمه لتعلو أنقى وأمتن وأقوى.
جمهور "البستان" جاء ليحضر ولادة ملكة وموتها. واقفة أمام عشتار، قدّمت لها تحيّة أمبراطورة إلى إلهة: "السلام عليك يا أخت بعل، هذه اللحظات أمامك انتظرتها طويلاً، يا ربة بيبلوس. أنا جوليا دومنا المتعبّدة لك، أنتقل بذكراك إلى صقلّية وافريقيا والإسكندرية واليونان وأعود لألتقي بك على ضفاف العاصي مدينتي". بعد هذه التحيّة ترفع النقاب عن وجهها وتغطي به رأس تمثال عشتار، ثم تتابع ما جاءت ترويه لها منذ البداية، زواجها من سبتيموس سيفيروس: "من هنا بدأت حكايتي يا إلهة الحب. الجموع في الخارج تترنح وترقص. على الأكف حملوني...".
قصّة طويلة بوعودها، بأفراحها، بعذاباتها، إعتلاء إلى قمة المجد، إنحدار إلى القعر ثم صعود، مؤامرات أدت إلى منفاها، والطعنة الكبرى كانت مقتل إبنها الأمبرطور كركلا.
التاريخ من فم بركاني ينطق بمآثر السلطة ومآسيها. بعدما كانت هي الأمبراطورة الطموحة، الباسلة، الغيورة على السلطة، والتي بمآثرها رفعت هذا الأفريقي سبتيموس سيفيروس إلى أمبراطورية روما، حملت ما بقي لها من سلطة الحكم، أثواب فاخرة وتاج، وجاءت إلى عشتار تطلب رحمة وعزاء، في هذا اليوم الأخير الذي أعدّته للموت.
الوصيفة حملت الهدايا التي شاءتها قرابين على قدمي الإلهة. أشعلت لها البخور، رقصت وجسدها الطيّع، يتلوى بعياقة، ومع كل فقرة من فقرات الإحدى عشرة من الاعتراف، تساعدها على التخلي تدريجياً من ملابس الأمبرطورية الثمينة وإلباسها طاقاً بعد طاق لعشتار. جوليا دومنا كانت شيئاً فشيئاً تتماهى أمامنا، لنتعاطى فنياً وحبّاً مع ميراي معلوف. وصيفتها، حين أصبحت بثوبها الأبيض الرقيق والطبول تقرع موت امبراطورة من التاريخ الكبير، قدّمت لها كأس السم وساعدتها على الموت تحت قدمي عشتار. انقلب الدور وصارت جوليا دومنا في تلك اللحظة المريعة، ميراي معلوف، المسرحية التي وصفها غسان تويني عند مشاهدته "جوليا دومنا" عام 2004، بأمبراطورة المسرح.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم