الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

كليرمون فيران: الفيلم القصير يتفاعل مع الأزمات الراهنة من الهجرة إلى مفهوم الحدود

كليرمون فيران: الفيلم القصير يتفاعل مع الأزمات الراهنة من الهجرة إلى مفهوم الحدود
كليرمون فيران: الفيلم القصير يتفاعل مع الأزمات الراهنة من الهجرة إلى مفهوم الحدود
A+ A-

قضية الهجرة غير الشرعية ألقت بظلالها على الدورة الأخيرة من مهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير، الذي انعقد في مطلع الشهر الماضي. السينما تتفاعل مع الواقع الذي تولد فيه وتستمد الأفكار من محيطها. نتيجة ذلك، تجد الكثر من المخرجين يدلون بدلوهم في مسائل تعبر القارات، وتضع الضمير الانساني على المحك، في مواجهة تحديات أخلاقية لم تكن في الحسبان حتى الآن. كليرمون كعادته، قدّم بانوراما شاملة للفيلم القصير، تتوضح من خلالها علاقة الشاشة بكلّ ما يجري من حولنا، في السياسة والاجتماع والبيئة.


في "رحلة سعيدة" للسويسري مارك ريموند فيلكينز (21 دقيقة)، نتعرّف إلى زوجين يبحران بيختهما في عرض المتوسط. فجأةً، يعترض طريقهما قارب محمّل مهاجرين يحاولون العبور إلى أوروبا. ماذا على رجل وسيدة أن يفعلا في مثل هذه الحال؟ أياً يكن، فلن يحظيا بترف التفكير، فكلّ شيء سيجري بسرعة، إلى اللحظة التي ينهضان فيها من النوم في صباح اليوم التالي، ليجدا نفسيهما في بحر من الجثث العائمة، فينقذان ما يستطيعان. غير ان أحد هؤلاء يستولي على اليخت (يضطلع بدوره الممثل السوري جهاد عبدو)، بهدف الفرار باليخت إلى أوروبا، فيتولد عراك، وتتبدد الثقة التي وضعها الزوجان في هؤلاء. الخطاب الضمني للفيلم يلعب على اللبس وتشابك وجهات النظر: ففي البداية، أمام سلوكهما الجبان وغير الإنساني وغير المسؤول، لا يسعنا إلاّ ان نلقي اللوم عليهما. ثم، بسرعة، يتبدد اللوم مع اكتشافنا بأنهما وقعا في فخّ تصرفهما النبيل. نتيجة هذا، من السهل الاستنتاج ان الدعوة إلى عدم الثقة صريحة وواضحة، إلا ان النصّ يحملنا إلى أبعد من ذلك، وخصوصاً ان المخرج لا يرحم أحداً تقريباً، ولا يوفر إلاّ ابنة أحد المهاجرين غير الشرعيين التي تتركها أمها مع الزوجين عندما يعتقلها خفر السواحل الليبية الذين يمارسون أفظع أنواع البطش والعنف. هذه البنت ستحمل رمزية عالية، وخصوصاً أنها شاهدت بعينيها كلّ شيء.
ليس بعيداً من هذا كله، فيلم المخرجة التركية روكين تقش، "الدائرة"، وهو أول أفلامها. نذهب مع تقش إلى قرية صغيرة تقع في بلاد الرافدين حيث تلامذة من ملل وأديان واتنيات مختلفة، أكراد وعرب وأيزيديين، يرتادون مدرسة. زلال طفلة كردية أيزيدية ترتاد المدرسة التركية مع زكي وبكير. إلا انّ المدرسة ستشهد نعرة أخلاقية خطيرة، عندما يقرر الاستاذ تعريف التلامذة إلى حرف o. "الدائرة" فيلم مرهق عن اضهطاد الأقليات في الشرق، مصوَّر بطاقة من المشاعر عالية، بكادرات جميلة وأفكار إخراجية ملهمة. صرخة الألم لن تُطلَق وسط البادية، إلا ان صداها ماثل في وجدان المخرجة التي تقدم هنا لفتة انسانية راقية لا تنعدم فيها مقومات السينما الجادة.
في "وانابي" للألماني جانيس لانز، نتابع تفاصيل حياة مراهقة تحاول تحقيق ذاتها عبر الإنترنت. هوَس الشهرة ونيل الإعتراف بأي ثمن، يقودان الفتاة الشقراء إلى حافة اليأس وهي لم تذق بعد شيئاً من الحياة، فهي تجهل التحديات الكبرى التي في انتظارها. الفيلم غوص في الواقع الافتراضي لجيل كامل من الشباب الذين يعيشون الحياة بالاستعانة. إنها قواعد الوجود الجديد الذي يفرض على كلّ منا أن يكون حاضراً لا فقط في الحقيقة بل على الشبكة العنكبوتية، فيحصد الإعجاب من ناس مجهولين يتماهون مع شخص غالباً يعاني من عدم ثقة في الذات. في أحد المشاهد تقول الابنة لأمها التي تكتشف أنها تغيب عن المدرسة منذ فترة طويلة: لا أريد ان أتعلّم. لا أريد أن أعمل في شركة بائسة طوال أربعين عاماً، ثم أقصد مكاناً بائساً خلال العطلة وحدي". جانيس لانز يتصدى للمنظومة الكاملة التي ترسم ملامح الألفية الثالثة. هذا واحد من أجمل الأفلام التي عُرضت في هذه الدورة التي أتت بكمّ من الأفكار المجنونة والابتكارات الجريئة إلى المدينة الفرنسية، مدينة تعيش على إيقاع التظاهرة المحبوبة طوال تسعة أيام.
الحياة المضطربة وأزمة العيش (الوحدة والتقدّم في العمر، الخ)، هما أيضاً ما تعاني منهما آنّا، في فيلم المخرجة الإسرائيلية أور سينا الذي يحمل اسم بطلته المضاد. آنّا الخمسينية تشتغل في معمل خياطة، لا شيء يبدو مثيراً في حياتها التي بدأت ترسم على وجهها آثار التعب. ينقل الفيلم يوماً من يومياتها حيث تكون قد تركت ابنها مع زوجها المنفصلة عنه. نلمس عند آنّا رغبة جنسية عارمة، تجعلها تتسكع في الشوارع بحثاً لا عن كتف تتكئ عليها برومنطيقية مطلقة، بل عن رجل يضاجعها بحقّ ويجعلها تصل إلى النشوة. الفيلم برمته ينتصر لواقع امرأة متروكة، تتجرأ على تجاوز وحدتها والمطالبة بحقها في اللذة.
من الأفلام ذات الدقة والمقاربة البصرية المتكاملة: "غاسبر" للايرلندية بريوني دون. تجري الحوادث في الطبيعة العذراء، بعيداً من كلّ مظاهر الحياة العصرية في ايرلندا. رجل سلوفيني يعيش هنا في بيته الصغير. يستيقظ صباحاً، يقلي البيض ويحضّر القهوة، ثم يتسلّق الجبال، قبل ان يبدأ في صيد سمكة الترويت في النهر. الفيلم مركّب من منمنمات، يحتفي بالطبيعة وبالإنسان بروعة وإحساس عالٍ بالزمن. أيضاً بعيداً من الأزمنة الحديثة والتمدن، يحملنا الفيلم الأرجنتيني "مركب أوليس" إلى عمق الأدغال. نتعرف إلى رجلين، بين الأول والثاني فرق كبير في العمر. فالرجل الحكيم يحاول توريث الآخر الذي يصغره سناً معرفة تعود جذورها إلى أجداده إلا ان الأخير غير مهتم بسوى موسيقى الراب. ستنتهي القصة بموت العجوز ودفنه، وعودة الصبي إلى ممارسة ما تعلمه. ثمة أيضاً، فيلم جزائري مشغول بشكل جيد عنوانه "جوقة على ايقاعي" لأيمي ايمانيشي، يصوّر فتاة صغيرة تعيش حياة معذبة في الصحراء الغربية، الكلّ يطلب منها ان تمارس وظيفتها كأنثى، أي ان تهتم بالمطبخ وتكتفي بأن تكون أنثى صالحة في خدمة الرجال. إلا ان صديقتنا يستهويها القتال على الجبهة؛ فهي تريد ان تكون جان دارك تخلص بلادها من الاحتلال، في حين ان البقية لا يرون فيها سوى مخبولة تقول أي كلام. أما الفيلم الذي يمتاز بجنون سينمائي كبير فهو "قوس قزح مكسورة" للجنوب افريقي فيم ستايتلر الذي يصوّر ناسكاً مختلاً عقلياً يخرج إلى الحياة ليكتشف ان نيلسون مانديلا قضى منذ وقت طويل وان أمة قوس القزح ليست سوى حلم من الماضي. هذا الفيلم الأول لهذا المخرج الذي يعرف كيف يضع نصّاً لامعاً. إلا ان أكثر الأعمال طرافةً هو ذاك الذي جاءنا به كلٌّ من غونهيلد أنغر وجيني توافونيمي: "اللجنة". ثلاثة مندوبين لثلاث دول، السويد وفنلندا والنروج، يجتمعون في لابونيا للتفكير في طبيعة العمل الفني الذي يرتأون نصبه في البقعة التي تلتقي فيها حدود البلدان الثلاثة. أحدهم يطرح فكرة الرقص لتجسيد مفهوم الحدود، فتنتج من فكرته سلسلة من النمر الظريفة التي لا تقنع اللجنة. لكم أن تتخيلوا بقية الحلول المقترحة!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم