الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

فرهادي بعد فوزه بـ”الأوسكار”: نعم هناك محظورات، ولكن هل كنتم تتمنون لو أنني لم أنجز أياً من أفلامي بسببها؟

المصدر: "النهار"
فرهادي بعد فوزه بـ”الأوسكار”: نعم هناك محظورات، ولكن هل كنتم تتمنون لو أنني لم أنجز أياً من أفلامي بسببها؟
فرهادي بعد فوزه بـ”الأوسكار”: نعم هناك محظورات، ولكن هل كنتم تتمنون لو أنني لم أنجز أياً من أفلامي بسببها؟
A+ A-

"عشتُ رحلة "الأوسكار" مع "انفصال"، لكن الأمر كان مختلفاً هذه المرة مع "البائع المتجول". لديّ موزع جديد، "أمازون"، لذا كانت الحاجة أقل للتوجه إلى الولايات المتحدة بغرض الترويج للفيلم، كما كنت فعلتُ بفيلمي السابق. لم تكن هناك ضرورة ملحّة لمرافقته كون الفيلم كان معروفاً قبل "الأوسكار". في الأصل، كان مفترضاً ان أشارك في الحفل، إلاّ ان الحظر جعلني أمتنع عن السفر، فتابعتُ الحفل عبر الانترنت". بهذا التصريح بدأ الحوار الذي أجريناه أمس، نحن وثلة من الصحافيين، مع المخرج الايراني أصغر فرهادي في الدوحة، ضمن نشاطات الدورة الثالثة من "قمرة" (٣- ٨ الجاري).
مخرج "البائع المتجول" المتوج للتو بـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي من هوليوود، لم يستطع السفر إلى العاصمة القطرية للمشاركة في "قمرة" حيث كان منتظراً، بسبب وجوده في اسبانيا حيث يستعد لتصوير جديده في الصيف المقبل. بيد انه التزم وعده في لقاء الجمهور وأهل الصحافة، وإن على مسافة، أي عبر الـ"سكايب".
سأله الناقد نيك فيفاريللي من مجلة "فرايتي" عن رأيه في القول الشائع ان الحظر وأصداءه ساهما في نيله "الأوسكار" (الثاني له بعد "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي عن "انفصال" في العام ٢٠١٢). فكان رده: "قام الفيلم بمشواره الخاص قبل حدوث الحظر، لم يكن لي أي سيطرة على ما حصل بعد ذلك. من جهتي، لم أحسب أي حساب، تعاطيتُ مع الحظر بعفوية واتخذتُ القرار بعدم السفر. أما افتراض المعايير التي يستند إليها الأكاديميون للقيام بالتصويت، فهذا شيء معقد. لا أعرف كيف بمقدورنا ان نعرف لماذا يختار أحدهم هذا الفيلم دون سواه".
عن اختياره لأنوشيه أنصاري وفيروز نادري ليتسلمان عنه الجائزة، قال فرهادي: "اخترتُ شخصين لتمثيلي في "الأوسكار"، وهناك سببان لهذا الاختيار. أولاً، لأنهما من أصول مهاجرة، إنهما مهاجران إيرانيان حققا نجاحاً مهماً في الولايات المتحدة. ثانياً، لأنني أجد انهما يعملان في مهنة مهمة هي غزو الفضاء، وهذا يعني أنهما لا يعودان يريان الحدود التي تفصل البشر بعضهم عن بعض على الأرض".
كالعادة، حاول فرهادي تلافي الأسئلة عن كيفية تعاطي السلطات الايرانية مع فوزه. فهذا السينمائي، على غرار العديد من السينمائيين الايرانيين ومنهم كيارستمي، لا يحب الحديث في السياسة، تجده يتجنّب كلّ محاولة تمضي في هذا الاتجاه، كما لو كان فوق حقل ألغام. يكتفي بالقول: "كان الناس سعداء ورحبوا بالخبر. ولكن في المقابل، هناك أقلية نظرت إلى الفوز من زاوية السياسة. ولكن، ليس هذا ما يهمني، ما يهمني أكثر من أي شيء آخر هو كيف تعاطت عامة الشعب مع الخبر".
لم يُرد فرهادي قول المزيد في موضوع "الأوسكار"، فانتقلت أسئلتنا إلى مشروعه الجديد، الذي يشارك فيه كلٌّ من خافيير بارديم وبينيلوبي كروز تمثيلاً وبدرو ألمودوفار انتاجاً. عن تجربة التصوير في اسبانيا مع ممثلين معروفين، يقول: "سبق أن صوّرتُ في فرنسا ("الماضي"). تجربة العمل خارج إيران ليست بجديدة بالنسبة إليَّ. بعد "الماضي"، كان من المفترض أن أنجز هذا الفيلم في اسبانيا، لكنني فجأةً شعرتُ بشيء شخصي يتطلّب مني العودة إلى إيران لتصوير "البائع المتجول"، والآن أعود إلى اسبانيا للتحضير لفيلم لا يزال في طور الكتابة والتطوير. الممثلان اللذان أشتغل معهما ودودان جداً، وأنا جدّ مستمتع بالوقت الذي أمضيه برفقتهما حالياً. علاقتنا تطوّرت بسهولة كبيرة، وحدث ان جميعنا كان متحمساً للسكريبت، وهذه طريقة ايجابية للانطلاق بمشروع".
ولكن، لماذا ألمودوفار؟ يوضح فرهادي: "الشركة الفرنسية "ممنتو" التي سبق ان تعاملتُ معها هي التي تتولى إنتاج الفيلم، وهي احتاجت إلى منتج مشترك من اسبانيا، كون الفيلم يحدث هناك. أول اسم فكرنا فيه كان بدرو. أولاً لأنني أحب أفلامه، وأيضاً لأنني أعلم ان لدى شركته فريقاً ممتازاً وتشتغل بمهنية عالية".
خلافاً لـ"الماضي" الذي يحتوي على عناصر إيرانية على رغم ان حوادثه تدور في فرنسا، فجديده اسباني مئة في المئة. أسأله ما إذا كان ينوي التنقّل بين عواصم العالم الحرّ لإنجاز أفلامه المقبلة، على غرار كيارستمي في سنواته الأخيرة، أو سينمائيين إيرانيين عاشوا المنفى الاختياري غير المعلن. يصرّ بأنه يحترم تجربة كيارستمي جداً، لكنه يجهل إذا كانت رحلته السينمائية شبيهة برحلة المخرج الراحل، وإذا كان فعلاً سيلفّ العالم من أجل التصوير. "لا أقرر أي أفلام سأنجزها، وحتى في أي مكان سأصوّرها؛ الأفلام تأتيني وأتكيف معها".



فرهادي المتكتم على تفاصيل الحكاية، المكتفي بالقول ان الفيلم عن العائلة، تظهر على وجهه علامات القلق والملل عندما يلوح من جديد سؤال في السياسة. "هل مشاريعك المستقبلية ستكون على صلة بالمناخ السياسي السائد حالياً؟"، تسأله صحافية هندية. يحتد، ثم يجد الصيغة القاطعة للرد: "شيئان أنا متأكد انني لن أفعلهما في حياتي: أولاً، إنجاز فيلم سياسي؛ لا أحب (مع التشديد على عبارة "لا أحبّ") النظر إلى العالم من خلال النظرة الضيقة للسياسة. أفضّل التعاطي مع المجتمع والناس، لا السياسة التي يقررها فريق صغير. ثاني الأشياء التي لن أفعلها البتة: توجيه الرسائل من خلال السينما. الرسائل لم تعد صالحة في أيامنا هذه. على أفلامنا ان تشهر الأسئلة بدلاً من الإتيان بأجوبة أو حلول".
من الاعترافات البارزة التي يقوم بها فرهادي خلال لقائنا معه، القول إنه ينوي إنجاز فيلم كوميدي: "احدى أمنياتي هي أن أتعامل مع البشر من خلال الكوميديا. سيكون صعباً، ولكن أتمنى ان أكون قادراً على إنجاز كوميديا قريباً عندما أعود إلى إيران. أحد المخرجين المفضّلين لديَّ هو بيلي وايلدر. هذا النوع من السينما يستهويني جداً. حتماً سيكون في إيران، لن أحاول حتى إنجاز كوميديا خارج ثقافتي، ليست هذه من الأشياء التي أعتقد إنها ممكنة".


... وقبل نحو ساعتين من لقائنا به في ما يُمكن اعتباره أول اطلالة له على الصحافة بعد فوزه بالـ"أوسكار"، قدّم فرهادي ماستركلاساً للمشاركين في "قمرة"، أداره الأميركي ريتشارد بنيا، تحدث فيه عن تقنيات السرد وإدارة الممثل والمحظورات في السينما الايرانية، وتطرّق إلى الينابيع التي ينهل منها، مسرحاً وأدباً وشعراً، متوقفاً عند ثلاثة من أهم أفلامه: "عن ايلي" (٢٠٠٩)، "انفصال" (٢٠١١) و"البائع المتجول" (٢٠١٦). في الآتي، أبزر ما جاء في هذه الندوة:


١- الواقع
"حبي للسينما بدأ عندما كنت أشاهد الأفلام الإيرانية وأنا ولد. كنت محظوظاً أنني ولدتُ في بلد، حيث، على الرغم من كلّ القيود والمحظورات، شهد ولادة سينمائيين استطاعوا ابتكار لغة سينمائية حديثة. قد لا يكون تأثيرهم فيَّ مباشراً، لكن سينمائياً كعباس كيارستمي مدّني بالحماسة والاقتناع بأنه في إمكاننا إنشاء لغة سينمائية جديدة. هذا الجيل من السينمائيين كانت له مقاربة جديدة للواقع. الواقع كلمة معقّدة جداً. أستطيع في هذه المحاضرة أن أعطيكم مثلاً عما يعنيه الواقع. لنفترض أن لي صديقاً ألتقيه لنشرب معاً الشاي. هذه واقعة بسيطة. في لقائنا المعتاد، سأجده يقول لي إنه إشتاق إليَّ جداً وإنه يخطط لرحلة. هذه طبقة واحدة من الواقع، ولكن ليست العلاقة بالواقع التي نبشتها السينما الإيرانية. الآن افترض ان بعد هذه اللحظة التي أمضيتها مع صديقي، صدف أنه مات، سأعيد تفسير كلّ الحوار الذي دار بيننا انطلاقاً من الواقعة الجديدة، حقيقة أن هذا كان آخر حوار لي معه. هذا يعني أنه إذا قال لي إنه إشتاق إليّ، فهذا متصل بالعلاقة التي كانت بيننا. وإذا قال إنه سيخطط لرحلة، فربما كان يتنبأ بموته. لذلك، واقع اللحظة التي أمضيتها معه سيُعاد النظر فيه انطلاقاً من الواقعة الجديدة. الواقع الذي قاربته السينما الإيرانية أو "الواقعية الإيطالية الجديدة" أو بعض السينما اليابانية غنيّ ومعقد".


٢ - المسرح
"تأهيلي مسرحي. علّمني المسرح ان أبلور شخصيتي الفنية. علّمني كذلك ان أنظر إلى الموضوع نفسه من وجهات نظر متعددة. عندما تجلس في المسرح، تختلف رؤيتك للأشياء بحسب المكان الذي تجلس فيه. في رأس كلّ مشاهد مسرحية مختلفة. من خلال المسرح، تعرّفتُ إلى إيبسن وتشيكوف وبينتر. لا أعرف شيئاً تعلّمته في السينما لم أكن قد تعلّمته سابقاً في المسرح. جذور كلّ شيء تعلّمته تضرب في المسرح (...). تركتُ المسرح إلى السينما قبل نحو 20 عاماً، ولا تزال في داخلي رغبة ان أعود يوماً إلى الخشبة. ولكن للأسف، لا أجد سنة كاملة أهدي نفسي فيها إلى المسرح، وهذا يُشعرني بالكبت. فوجدتُ ان الطريقة الأنسب للتعاطي مع المسرح هي من خلال السينما. لسنوات، سكنت بالي قصة زوجين يتم "اقتحام" منزلهما. لكن الحبكة ظلت غير مكتملة، فلم أشعر بالرضى. كان ثمة ما هو ناقص. لم أجد المهنة التي تشغل الزوجين؛ كان في إمكانهما العمل في أي مجال، وهذا ما لم يقنعني كثيراً. ثم، خرجتُ بفكرة ان أجعلهما ممثلين، فالتمثيل ليس فقط مهنة بل هو يمدّ الممثل بقدرة كي يضع نفسه في جلد الآخرين. يشعر بالتعاطف تجاههم. لذلك، مع فكرة جعلهما ممثلين، شعرتُ ان الحبكة اكتملت.
الحسّ الإيقاعي في أفلامي هو أيضاً متأتٍّ من عملي في المسرح وتأهيلي المسرحي. عندما تشتغل في المسرح، تكون جدّ حساس لرد فعل جمهورك وترغب دائماً في التأكد من انك تهيمن على تركيزه. إذا رأيتَ أحدهم يخرج من الصالة أو حتى يتحرّك في كرسيه، تشعر بالإحراج. والإيقاع هو إحدى الأدوات التي تسمح لي بلفت المُشاهد. هناك نوع من الثريللر أو التشويق الذي ألجأ إليه لهذا الغرض. الإيقاع متأصّل في السيناريو عندي، ثم هناك النحو الذي يجسَّد به في مرحلة أولى من خلال كوريغرافيا أجساد الممثلين، ولاحقاً من خلال المونتاج".



٣ - الممثلون
"قبل تصوير "عن إيلي"، أجرينا تمارين استغرقت ٤ أشهر. لو شاهدتمونا نتمرّن، لأعتقدتم أننا نستعدّ لمسرحية. كنا نتمرّن على بعض المَشاهد؛ لم يكن أحد قد طالع السكريبت بعد. أكثر من أي شيء آخر، كنت أريد للشخصيات خلفيات حكائية بهدف بلورتها. مثلاً، كان لشخصية إيلي صديق، ولا نراهما معاً في الفيلم، ولكن خلال التمارين كانا معاً. استخدمتُ التمارين كي أجعل الزوجين يشعران فعلاً بأنهما زوجان. في الأفلام، يزعجني ان أرى شخصين من المفترض أنهما عاشقان، ولكن عندما تنظر في عيونهما لا ترى ان أحدهما مرتبط بالآخر. لذا، هذه من الأشياء التي أحاول الحصول عليها من خلال التمارين.
لي ان أكشف أنني لا أصارح البتة للممثلين بشكل مباشر ماذا أنتظر منهم. لا أقول مثلاً: "أنت شخص مسلٍّ". لو فعلتُ ذلك، لركّز على هذا الجانب بالذات من شخصيته خلال التصوير. في المقابل، أقول للممثلين إن لديهم جملة من المزايا، وأحمّسهم على ان نجري التمارين معاً بهدف الوصول إليها. هذه رحلة علينا بلوغها معاً. بعد ذلك، نقوم بتمارين جماعية. مثلاً: في "عن ايلي" لدينا شخصيتان، الأولى أحمد والثانية سيبيديه، الأخيرة متزوجة من أمير ولديها منه طفل. وددتُ ان أوحي، لا بطريقة مكشوفة، بأنه قد يربط الإثنين (أحمد وسيبيديه)، ماضٍ مشترك. لذلك، خلال التمارين، تخيلنا ذلك الزمن الذي كانا فيه طالبين. المثير أنه عندما عُرض الفيلم، شعر المشاهدون بذلك، مع انه لا يتضمن إشارات. هذا هو التمثيل بالنسبة لي: فنّ يأتي من داخل الشخصيات.
العمل مع الأطفال في منتهى الصعوبة، إلى درجة أنني أقول في كلّ مرة "هذه هي المرة الأخيرة". ولكن في الحين نفسه، شعوري باعتباره مكافأة يجعلني أكرر التجربة. الطفل في الفيلم هو أكثر شخصية تتمنى ان يتعاطف الناس معه. الأطفال يمنحون الفيلم قسطاً من الصدق. لهذا السبب حضورهم قيّم جداً عندي. إلا ان العمل معهم يختلف عن العمل مع الكبار، لأنك لا تستطيع ان تطلب منهم أداء أي دور، عليك فقط ان تفتعل الظروف. الأطفال أشقياء، يحبون اللعب، لكن التمثيل ليس لعباً عندهم. فما أفعله هو أنني أضعهم في بعض المواقف لإلتقاط ردود أفعالهم. هذا لا يعني أنني أكذّب عليهم، ولا يعني أيضاً أنه يصحّ ان أكون نزيهاً في التعامل وإياهم.
عملتُ ٣ أو ٤ مرات مع الممثل عينه، أعتقد عندما تواصل العمل مع أحدهم، تتبلور لديكما ذائقة سينمائية مشتركة. مهمتي في موقع التصوير هي أن أقول للممثل ما يجب ان يتجنبه بدلاً من ان أقول له ما يجب أن يفعله. كلما عملتُ مع ممثل، تعرفتُ إليه أكثر، وتراجعت حاجتي في توجيهه. عندما أعمل مع ممثل جديد، أمضي أيامي الأولى في اسناد التعليمات إليه، وغالباً لا يتعامل معها بإيجابية.
عندما أقول انني لا أسأل الممثلين مباشرةً ماذا أنتظر منهم، هذا يعني انني لا أعرّف الأشياء بأسمائها. على سبيل المثل، إذا أردتُ من شخصية أن تكون محافظة، فلا أقول للممثل الذي يجسّدها: "أريده محافظاً"، بل سأضعه في موقف يجعل رد فعله، رد فعل شخص محافظ. في "البائع المتجوّل"، لديك شخصية الرجل العجوز الذي يظهر في آخر الفيلم. ما كنت أريد منه هو ان يعبّر عن تجربة الإذلال الذي تعرض له أمام عائلته. وبهدف الحصول على هذا التعبير، طلبتُ إليه خلال التمارين، ان يتخيل أنه دخل إلى محلّ للمجوهرات، وفي هذا المحلّ يلاحظ البائع في لحظة من اللحظات ان قطعة مجوهرات قد سُرِقت، فيتم تفتيش الجميع بعد أن يُقفل الباب عليهم. بعد التفتيش يجدونها في جيبه. هذا الاحساس بالذل نتيجة كشف فعلته أمام الجميع هو الشيء الذي كنت أريد تطويره لديه. خلال التمارين أيضاً، طلبتُ إليه ان يتخذ سلوك السجين، ما زاد شخصيته ذلاً. لطالما سألتُ ما المعيار الذي يجب ان أستند إليه لمحاكمة سلوكيات الآخرين. هل عليه أن يكون معياراً أخلاقياً أو دينياً أو إنسانياً؟ الجواب الذي وجدته عن هذا السؤال هو ان المعيار الذي يجوز تطبيقه هو الضمير".



٤ - المونتاج
"لم ألجأ إلى "ستوري بورد" حتى الآن، ربما يجب عليّ فعل ذلك في المستقبل (...). أعمل دائماً مع المونتيرة نفسها، بدأنا معاً منذ "عن إيلي"، ونتشارك اللغة السينمائية عينها، وكلّ منا على يقين بما يحبه الآخر. بالنسبة للمشهد الذي شاهدناه من "عن إيلي"، عليّ ان أشرح للجمهور لماذا هناك هذا القدر من التقطيع. هذا مشهد داخلي طويل. كنت أحتاج إلى ديناميكية تمنع المشهد من السقوط في الملل، لأن هناك عدداً كبيراً من الناس يتكلمّون بعضهم مع بعض في غرفة واحدة. الصعب هنا هو ان نقطع من دون أن يحس المُشاهد بالتقطيع. فعليك الانتقال بنعومة، كي تشعر ان هناك انسجاما طبيعيا بين اللقطة وما يليها. في النهاية، ستشعر أنك في مسرحية. الكاميرا تبقى على مسافة واحدة من كلّ شخصية. لا يتم تمييز أي واحدة منها. يمكن القول ان الكاميرا في الوسط وإنها لا تدين أحداً. وعندما أقول إنني لا أدين الشخصيات، فهذا لا يعني انني أدفع المتفرجين في ذلك الإتجاه. بالعكس: أعتقد أنه عندما يمتنع المخرج عن الإدانة، فإنه يفسح المجال للجمهور كي يدين. إذا قلتُ مَن المُحقّ ومن المخطئ، فإنني أفرض على المُشاهد رأيي. فيختفي أي حوار بيني وبينه".


٥ - الكتابة
"هناك شقّان في عملية الكتابة: شقّ أعيه وشقّ لا أعيه. أعتقد ان لكلّ واحد منا رصيداً هائلاً في داخلنا، وهذا الرصيد هو اللاوعي. كلّ ما نحتاج لدخوله هو كلمة مرور. بالنسبة إلى "انفصال"، أتذكّر كيف انبعث كلّ شيء. كان ذلك يوم يصف فيه أخي تجربة عاشها. فجدي كان مصاباً بالألزهايمر وكان أخي يهتم به. روى لي لحظة حمله فيها إلى الحمام وبدأ بغسله. وبسبب تراجيديا اللحظة وللأسف الذي كان يشعر به حياله، انهار وبدأ يبكي. تلك اللحظة بين الرجلين كانت الدافع الأساسي لسيناريو "انفصال". أخذتها وأردتُ معرفة من أين يأتي هذا الرجل الذي يغسل أبيه. أين هي زوجته، مَن هي ومن هم هؤلاء الأولاد. هكذا بدأ كلّ شيء. انطلقتُ من لاوعيي. أسدي طلابي دائماً هذه النصيحة: طوّروا لاوعيكم وثقوا به. وفقط عندما أضع بنية الفيلم استناداً إلى الفكرة العامة الآتية من لاوعيي، أستحضرُ الوعي الذي في داخلي، فتتوالى المَشاهد. عموماً، عندما تصبح في حوزتي معالجة كاملة للفيلم، أعطيها إلى زميل أو صديق أثق به، وأستمع بإهتمام شديد لرد فعله. بدلاً من ان أروي لهم القصّة كتابةً، أرويها شفهياً. أراقب رد فعلهم وأنا أروي لهم القصة، فأجدني متحمسّاً لتغييرها. فعندما أراهم مثلاً تعساء أو لامبالين، أتشجّع على إعادة هيكلة القصّة. من المستحيل ان يقفل الكاتب على نفسه ويخرج بعد فترة بسيناريو جيد. عليه التفاعل مع الآخرين".


٦ - التصوير
"ما أتوقعه من مدير التصوير هو ألا يجعلني أحسّ بالإضاءة أو بحركة الكاميرا. أليست فكرة السينما هي أن تقول لنا "هذه حياة لا مجرد فيلم"؟ عندما صوّرنا "انفصال"، أريتُ مدير التصوير وثائقياً مصوَّراً بكاميرا محمولة. قلت له: "هذا هو نوع الصورة الذي أريده. لا أريدك ان تخرج بإنطباع ان الإضاءة تبلورت بطريقة دقيقة. عادةً، ألجأ إلى مدير التصوير نفسه. من السهل جداً ان تحاكم الشخصيات من خلال المكان الذي تموضع فيه الكاميرا. اذا لاحقت كاميراتك شخصاً وظلت تتعقبه، فهذا إنحياز واضح، ويعني أنك في معسكره. اليوم نلاحظ ان التقنيات الجديدة والتطور التكنولوجي باتا يقفان في وجه الإبتكار. الإضاءة صارت متشابهة خصوصاً في المَشاهد الداخلية".


٧ - الطبقة الوسطى
"لاحظتُ انني أتعامل مع أناس من الطبقة الوسطى بعدما أتممتُ فيلمي الثالث. لم يكن متعمداً. على الأرجح لأن معظم الناس في إيران يتحدرون من الطبقة الوسطى. أنا نفسي أنتمي إليها، وأشعر بقرب منها. في كل حال، يختلف الأمر إذا كنا نتحدث عن الطبقة الوسطى من المعيار الثقافي أو الإقتصادي. في عدد من البلدان، المصادفة تجمع المعيارين. في فرنسا مثلاً، إذا تكلمتَ عن البورجوازية، يتداخل المستويان، المستوى الإقتصادي والمستوى الثقافي. إذا زرتَ منزل عائلة تنتمي إلى البورجوازية، توقع ان تجد على الجدران لوحات معينة. في إيران، هذان المستويان غير مرتبطين أحدهما بالآخر. قد تدخل إلى منزل كبار الأثرياء، ولا ترى فيه أي ثراء. إذاً، الطبقة الوسطى التي أركّز عليها هي الطبقة الوسطى الثقافية في بلادي".


٨ - العلاقات
"العلاقة بين إثنين بحرٌ لا ينتهي، قد تغوص فيه عدد المرات الذي تريده، ومع ذلك سيكون هناك أشياء رهن الإكتشاف. تاريخياً، لا يوجد شيء أكثر بعداً من العلاقة الزوجية. لكن المشكلات تتجدد كلّ يوم. لا زوجان يستطيعان استخدام تجرية زوجين آخرين لحياة أفضل. ولا يوجد زوجان يشبهان زوجين آخرين. الزوجان هما بالنسبة إليَّ وسيلة جيدة لإقتحام المجتمع الواسع. العلاقة بالمجتمع هي الأخرى تهمني. يحصل هذا أيضاً في المسرح. خصوصاً في مسرحيات آرثر ميللر".


٩ - الأدب
"الأدب ملهم جداً. أكثر من السينما. في هذه الأيام، أستمتع بالمطالعة أكثر من استمتاعي بمشاهدة فيلم. حالياً، أقرأ أورهان باموق والمتعة التي يمنحني إياها أعلى ممّا آخذه من السينما. في بداية حياتي، كان الأدب الإيراني الأكثر تأثيراً فيَّ. فقط، بعد دراساتي اكشتفتُ الأدب العالمي وتأثرت به. عدم توزيع شخصياتي بين أشرار وخيّرين - سواء في المسرح أو في السينما - مهم جداً عندي. النحو الذي قاربتُ به الخصومة وتكريس فكرة أنه في الصراع ليس من الضرورة أن يتصارع الخير مع الشر للوصول إلى خلاصة مفادها ان أحد الطرفين مخطئ والآخر محقّ، هو أمر ألهمني وتعلّمته من الشاعر الفارسي العظيم أبو قاسم الفردوسي. عندي، قد يقع الصراع بين الخير والخير!".


١٠ - السياسة!
"بالنسبة إلى الشخص الذي يقول في بداية "البائع المتجوّل"، بعد تعرض الحيّ لهزة أرضية، "لو استطعتُ، لدمّرتُ المدينة كلها وأعدتُ بناءها"، أنا لا أرى هذا المشهد سياسياً. لا أنظر إلى العالم من وجهة نظر سياسية. أجدها نظرة ضيقة جداً، لا تستطيع أن ترى الكثير من خلالها. لكننا نعيش في بلد كلّ شيء فيه يتعرض للتسييس. مهما فعلتَ وأياً كان سلوكك، سيتم الردّ عليك بالسياسة. حتى مظهرك الخارجي في إيران، يُشرح من منطلق سياسي. إذا لبستَ بنطلون جينز، فسيتم تلقي هذا الأمر كموقف سياسي. لا أستطيع أن أفعل الكثير حيال القراءة السياسية لأفلامي، لكني أشدد ان النحو الذي أعبّر به عن أفكاري ليس رمزياً؛ أنا لا أستعمل الرمزية في أفلامي، كلّ شيء واقعي ومعقّد. ثم، أفضّل انتقاد المجتمع على انتقاد السياسيين، كوني أؤمن بأن بث الوعي في المجتمع يمنع وقوع البلد في يد الديكتاتورية".


١١ - الفضاء
"من الطبيعي ان يأخد المنزل هذا الحيز المهم في أفلامي، لأن موضوعي هو العائلة. المنزل ليس مجرد مكان، إنه أيضاً انعكاس الحياة الداخلية للشخصيات. تقسيم الشقة في "انفصال" معقد جداً؛ هناك منعطفات وشبابيك في كلّ مكان منها. أراه تعبيراً عن العلاقات المعقدة. وغالباً ما تنعكس تيمة الفيلم على المنزل الذي أصوّر فيه. مثلاً في "ألعاب الأربعاء النارية"، المنزل الذي من المفترض ان يكون ملجأً، يتحول إلى نقيض ذلك، مكان ينعدم فيه كلّ احساس بالخصوصية والأمان. وتيمة الخصوصية هي في قلب "البائع المتجوّل". مرة أخرى، عندما تأتي على ذكر الخصوصية، تفكّر في المنزل. عندما تصبح خصوصيتك مهددة، تشعر بذلك في عقر دارك. سؤال آخر لا أملك جواباً عنه: لمَ أمضي الكثير من الوقت في المطبخ في أفلامي؟ (ضحك)".



١٢ - المحظورات
فتاة إيرانية تتوجه بسؤال إلى فرهادي: "أفلامك واقعية تنطوي على الكثير من المَشاهد الداخلية. تعاطيك مع المحظورات بما يتعلق الملابس مثيرة جداً. عباس كيارستمي كان يقول إنه من الصعب جداً لمخرج واقعي ان ينجز فيلماً داخل البيوت في إيران، لأن هناك شروطاً لتصوير المرأة وإلتقاط الحميمية. ولكن، عندما أشاهد أفلامك، أحاول ان أتعلّم كيف تلتف حول هذه المسألة. مثلاً حضور الشخص الغريب في المنزل. كيف تجعل الفضاء الخاص قابلاً للتصديق؟".
"عموماً، من الصعب جداً بناء فضاء داخلي يبدو حقيقياً. الخيار الأول هو التصوير الخارجي بسبب المحظورات، فيصبح ارتداء الحجاب في هذه الحال مبرراً. ولكن إذا قررنا التصوير في الداخل، فيمكننا محاولة إيجاد حيل ليبدو المشهد طبيعياً. في "البائع المتجوّل" مثلاً، إصابة الزوجة تبرر أن نرى الشريط على رأسها. هذا مبرر درامي. في "انفصال"، كان المبرر لارتدائها الحجاب خلال وجودها في المنزل هو أنها إما تعود للتو إلى المنزل ولم تغير ملابسها بعد، وإما تستعد للخروج. هذه أشياء تعلّمتها مع الوقت. أنا متأكد أنكَ إذا اخترتَ مخرجاً عظيماً في هوليوود وجئت به إلى إيران، فلن يستطيع تصوير مشهد واحد كهذا، لأنه خارج تلك الثقافة. يبقى أنه يمكنك ان تختار الراديكالية وتقول إنه بسبب هذه المحظورات التي في السينما الإيرانية، عليكَ التوقف عن انجاز الأفلام. هنا، أنا الذي سأسألكم: هل كنتم تتمنون لو أنني لم أنجز أياً من أفلامي بسبب المحظورات؟".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم