الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

مأساة سوريا من داخل شقّة

المصدر: "النهار"
مأساة سوريا من داخل شقّة
مأساة سوريا من داخل شقّة
A+ A-

أصداء الحرب في سوريا ومآسيها التي هزّت الضمير العالمي، وصلت باكراً إلى المهرجانات الدولية. منذ العام ٢٠١٤، أي بعد ثلاث سنوات على اندلاع الثورة، فرش مهرجان كانّ السجادة الحمراء أمام رائعة المخرج السوري المعارض أسامة محمد، "ماء الفضّة". منذ ذلك الحين، عُرضت عشرات الأفلام هنا وهناك، روائية ووثائقية، قصيرة وطويلة، عدد منها لم ينجح في الإقناع ووقع في فخّ التعليق الفجّ على الحدث. هذه الأفلام بدت غير مهمومة بتشكيل عالم سينمائي موازٍ يرتقي بالواقع من خلال لغة الصورة. في المقابل، هناك مَن استطاع الإتيان بجردة حساب أمينة لواقع معقّد. أياً يكن، لا يزال عند العديدين، اقتناع سائد بأن الوقت لم يحن بعد لفيلم كبير عن المأساة السورية.


"إنسيريايتد" الفائز بجائزة قسم "بانوراما" في مهرجان برلين الأخير (٩- ١٩ شباط) يخرج عن الدروب المطروقة، ويعلو بالمأساة السورية من دون أن ينسى التأريخ لمعاناة الناس اليومية. الفيلم أنجزه مخرج بلجيكي (التجربة الإخراجية الثانية له)، اسمه فيليب فان لو، وعمله هذا عن الحرب السورية هو في رأيي الأقوى والأجمل والأكثر تعبيراً عن الأزمة حتى اليوم. لعل وقوفه على مسافة من الحوادث هو الذي جعله ينجز عملاً هادئاً وعاقلاً لا ينجرّ إلى الميلودراما الركيكة أو فيض المشاعر المصطنعة.



 


قصة العائلة التي يصوّرها فان لو، لا تنفك تتحوّل ردّ اعتبار إلى نضال المرأة وتضحيتها من أجل البقاء. في شقة أمّ يزن (تؤدي دورها الفلسطينية هيام عباس - أداء استثنائي)، المتحوّلة إلى نوع من حصن منيع ضمن نطاق منطقة مهجورة، تتعايش عائلة مع عائلة أخرى تقيم في المبنى نفسه. هناك الأولاد الثلاثة ووالد الزوج الغائب عن البيت، الذي تسلّح للدفاع عن عائلته. نكتشف الظروف التي تعيشها هذه العائلة المتوسطة الحال، حيث لا ماء ولا اتصالات. لكن أم يزن "أخت رجال"، تتدبر أمورها كما ينبغي. على الرغم من كلّ شيء، عند هؤلاء ما يضمن كرامتهم.


الا ان الحكاية ليست عن أمّ يزن وعائلتها. هناك عنصر آخر يسرق الضوء: العائلة الحديثة المتألفة من سمير وحليمة (ديامان بو عبود) وطفلهما الرضيع؛ عائلة تستعد للهرب من جحيم الحرب. لكن قناصاً يطرح سمير أرضاً فور خروجه من البيت مع بداية الفيلم. تحدث الجريمة على مرأى من الخادمة (جولييت نافيس) التي تكتم الخبر بأمر من ربّة المنزل. هل مات سمير؟ بالنسبة إلى الخادمة، لا يوجد أدنى شك، وكذلك بالنسبة إلينا. لكن ليس ثمة ما هو مؤكد في الحروب. حتى مسألة إيصال الخبر إلى صاحبة العلاقة أو عدمها تخفي وجهين. فعدم ابلاغ زوجة سمير يعني حمايتها من موت محتمل، أما العكس فهو مرادف لمنعها من الحداد. وماذا إذا لم يكن سمير قد مات أصلاً؟ كلّ شيء ملتبس في ظروف كهذه، وهذا ما يعرفه جيداً فان لو.


كلّ حوادث الفيلم تجري داخل شقة؛ صالة وتوابعها. الشقة تقع في ما هو مفترض أنه دمشق (ثمة لبس مقصود في عدم تسمية كلّ شيء بمسمياته). هذا يعني أننا لن نرى من الحرب شيئاً، فكلها مجسَّدة صوتاً لا صورة، وهي تُسرَد إما من خلال ما نسمعه عبر الإذاعة أو من خلال المعلومات التي تتراكم عندنا عندما تتحدث الشخصيات بعضها مع بعض. لا اطلالة على الخارج، الملغى كلياً، أو من الأفضل القول ان المخرج يدعو هذا الخارج إلى الداخل، بحيث ان المناكفات العائلية والتحديات اليومية تعطي صورة وفية لحجم المأساة. هذا الخيار الإخراجي والسيناريستي يمنح الفيلم قوة درامية وشرعية أخلاقية معينة. فلقد تعوّدنا طوال السنوات الستّ للحرب السورية، على سيل كبير من الصور الآتية من سوريا، حدّ أنها لم تعد تعني شيئاً كبيراً لكثيرين. هذه الصور انعدم معناها وسُخِّفت وظيفتها.


أمام بهتان محاولات الإبهار بالصور، اختار فان لو الذهاب إلى التجربة الشفهية والصوتية. وقد ارتأى لفيلمه أيضاً وحدة مكان وزمان بهدف تلف الأعصاب، حدّ الرغبة في الهرب إلى جهة مجهولة. لكن إلى أين؟ إنه السؤال الذي لا يطرحه السوريون في بداية الفيلم، ولكن يصبح عدم طرحه غير منطقي مع تقدّم الحوادث ومن شدة الكلوستروفوبيا التي ستخنقهم. من المعلوم منذ زمن بعيد، ان ما يبقى خارج اطار الصورة يغذّي المخيلة، فيصبح حضوره أقوى وأشد وطأة. بهذا المنطق أنجز فان لو فيلمه عن سوريا، وهو عمل مرجعي يكتب في سياق حميمي تاريخ الألم والمناجاة والصمت المتكدّس لسنوات ستّ، لكنه يذكّرهم قبل أي شيء بأنهم ليسوا أرقاماً في تقرير تلفزيوني، بل بشر عرضة لتدمير نفسي متواصل قبل أن يلحق بهم أي أذى جسدي حتى.



 


نحن كمشاهدين، قد نسأل مراراً: ماذا عن الوضع في الخارج؟ فإذا كان الداخل بهذا القدر من العنف والقسوة، فماذا عن الخارج حيث الوحوش الفالتة؟ هذا هو هاجسنا طوال ساعة ونصف ساعة، وهي المدة التي يضعنا فيها الفيلم داخل جدران الشقة ليغلقنا فيها نهائياً، فيصبح المكان على محدوديته رمزاً للحريّة والاستقلالية والخلاص. سنكتشف تباعاً تفاصيل تحرك الشخصيات في شقة تحولت ملاذاً غير آمن كلياً من القناصين والقنابل والصواريخ التي لا يكفّ صوتها من نخر دماغنا ومدّنا بالصور الخيالية. لا يتورّط الفيلم، وهذا أهم ما فيه، في الانتصار لمعسكر ضد آخر. لا نراه يتيه في الزواريب، تاركاً لنا حرية الحكم من خلال ما يقدّمه من معطيات. هذا لا يعني ان الفيلم يفتقر إلى وجهة النظر، لكنه لا يميل إلى خطاب الإدانة، ليس إيماناً بحياد سينمائي جميل يضع كلّ شيء على مستوى واحد، بل لأن هذا ليس نوع الفيلم الذي صاغه فان لو. فالنظرة التي يلقيها هنا على واحد من أخطر النزاعات وأكثرها دموية وشراسة، هي نظرة إنسانية في المقام الأول. صحيح أن الحوادث تتخذ من سوريا ساحة لها، لكن كان يمكن ان يحصل هذا في أي مكان (الفيلم تم تصويره في لبنان). "إنسيريايتد"لا ينطوي على خصوصية سورية، ما يسهّل عملية التماهي معه من جهمور غير متورط يجهل تفاصيل الصراع كافة.


لدعم الفيلم ببعض التوتر السينمائي وإيصال الحوادث إلى الذروة، سيحدث اختراق للمكان لن نكشف تفاصيله. انه مشهد في منتهى القسوة سيتجلى أمامنا بكلّ تفاصيله، جعل أحد المتفرجين العرب لدى عرضه في برلين يفقد أعصابه ويصرخ "شبيح" في وجه المعتدي. من الواضح اننا أمام احدى تلك اللحظات التي يخرج فيها الفيلم من "براءته" ليورّط المُشاهد في شيء أعظم من مجرد متابعة يوميات عائلة تحاول الصمود وسط الخراب. انه حقاً مشهد مؤلم برعت فيه ديامان بو عبود تمثيلاً، وهذا يبين ان الممثلين اللبنانيين يعطون أفضل ما لديهم، عندما تتم إدارتهم إدارة بارعة. هذا المشهد جوهري لأنه سيولد معضلة أخلاقية كبرى عند كلّ الشخصيات. هناك معتدٍ وهناك ضحيّة وهناك شاهد عاش الجريمة الأخلاقية صوتياً، ليصبح الشاهد تالياً في حالتنا نفسها، نحن المشاهدين. يجب القول أيضاً إن الفيلم ليس لطيفاً مع الشخصيات، بمعنى أنه لا يقدّمها كضحايا، بل لها ما لها وعليها ما عليها. من خلال حشر بعض الناس في مكان كهذا، وجعلهم يخشون على حياتهم ويمتحنون غريزة البقاء لديهم، تظهر الطبيعة البشرية بصورتها المطلقة. صورة لا تشرّف البشر أحياناً.


 [[video source=youtube id=OEtw3C2nUSw]]

* يُعرض في الصالات المحلية.


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم