السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

محاولة لتفسير "تناقضات" السياسة الأميركية في المدى القصير

محمود حدّاد
A+ A-

كتب الأستاذ سام منسى في "النهار" (30 حزيران 2013) تحليلاً، بعنوان: "هل تدعم أميركا المد الإيراني والشيعي في المنطقة؟" رأى فيه أن الولايات المتحدة راضية عن التدخل الإيراني في سوريا ومتساهلة مع دور "حزب الله" الشيعي هناك (وهنا) أيضا، واعتبر أن ما جرى في معركة القصير يكشف انحياز إسرائيل وأميركا للحلف الإيراني - السوري، وإن كانت واشنطن ستوجه لهذا الحلف في الوقت المناسب ضربة قاضية.


وكتب الأستاذ جهاد الزين مقالاً، بعنوان: "سوريا الكبرى: من داغستان إلى سينكيانغ" (16 تموز 2013) شدّد فيه على ارتباط المصالح الأمنية الروسية والصينية بالوضع السوري، ورأى أن مجتمعاتنا في خطر شديد لأنَّ الصراع الدوليَّ والاقليميَّ يمتد من داغستان إلى سينكيانغ وعلى أطرافه الغربية سوريا الكبرى حيث الامتداد الشيعي.
وكنت كتبت في عدد "النهار" ذاك وعلى الصفحة نفسها مقالاً، بعنوان: "سياسة التحوّط الأميركية وهارون الرشيد المعاصر" أشرت فيه إلى أن لواشنطن يداً في كل أمر، وعند كلِّ الفرقاء وأنها عادة ما تربح بسبب سياسة التحوّط التي تتبعها حيث تضع بيضة في كل سلة. وهي تتصرف على طريقة هارون الرشيد الذي خاطب السحابة العابرة المسرعة: "اذهبي وأمطري أنىّ شئت فسيأتي إلي، على كل حال، خراجك!". ومع أن الوضع المصري كان المقصود الأول في التحليل الذي قدمت إلا أن المقال بدا لبعض الأصدقاء متعارضاً مع مقالي الأستاذين منسى والزين في ما يتعلق بالوضع السوري تحديداً.
الحقيقة أنني لا أجد نفسي في تعارض مع الرأي الذي يشدد حالياً على الدور الإيراني ولا الرأي المشدد على الدور الروسي في سوريا، إلا أن النقطة التي أعترض عليها، أولاً، هي التركيز على "تشييع" الصراع لأن هناك، في ظني، تضخيماً يقصد منه تزوير الأحداث بتمويه توسع القومية الإيرانية وترذيل فكرة الرابطة العربية. فالسني والمسيحي الإيرانيان إيرانيان كاملا الإيرانية أما العربي فيصور اليوم على أنه إما سنيَّ أو شيعي أو مسيحي أو علوي لا يجمع بينهم جامع!
وهكذا، يجري استخدام السلاح الأيديولوجي المتمثل بمحاولة تعبئة كل الطائفة الشيعية في الإقليم لتحويلها جيشاً مقاتلاً إلى جانبها. وقد نجحت هذه الإستراتيجية شيئاً غير قليل بكل أسف، ترفدها مصالح سياسية ومالية ووظائفية، فأصبح النقاش في المشرق طائفياً يحجب الحقائق ويدور حول مصالح الطوائف بدل أن يدور حول مصالح الأوطان. كما أن التطييف والتشييع كانا سياستين اختارهما الحاكمون ولم يخترهما المواطنون. فُرضتا عليهم فرضاً بقصد تخويفهم من البدائل التغييرية في البلاد وإيهامهم أن النظام الطائفي المتنكر بلبوس علماني هو حاميهم الأوحد.
ولكن إذا تجاوزنا هذه النقطة لا بد من التساؤل: لماذا هذا الضمور والاستكانة في واشنطن وملحقاتها الأوروبية بالنسبة لما يجري في الإقليم المشرقي؟ هل من مصلحة غربية في إقامة تحالف يمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق ويكون مرضياً عنه في موسكو وبيجينغ؟ أن أحد المبادىء المركزية لسياسة القوى الكبرى في شرقنا هو منع قيام دولة إقليمية قوية متصالحة مع جوارها عبر تعاون طبيعي أو تحالف من أي نوع كان. وكان حلف كهذا مطلباً ومكسباً لكل سكان الإقليم، عرباً وعجماً، لو تحقق لمصلحة كل شعوبه وعبر اراداتهم دون فرض من جهة واحدة ودون تهليل بالنصر لأنهار الدماء التي تستمر متدفقة بين وديان المنطقة وسهولها وفي القلب من مدنها وعلى أطرافها.
غير أن الطريقة الفوقية والدموية التي يبنى فيها هذا الحلف جعلت غالبية وازنة من شعوب المنطقة مقاومة له بدلاً من أن تكون مرحبة به، خاصة أنه أُعطي مغزى طائفياً تقسيمياً بدل أن يُعطى محتوى وطنياً أو، على الأقل، سياسياً/ دينياً توحيدياً. فقد جرى حتى صرف النظر عن الرابطة الإسلامية العامة التي كان اصلاحيو القرن التاسع عشر قد تحدثوا عنها في مواجهة الأخطار الخارجية كجمال الدين الأفغاني (أو الإيراني حسب مصادر أخرى) ومحمد عبده. لقد تخلت "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" في سياستها الخارجية عن الفكرة الإسلامية التي يمكن أن تكون لها صفات توحيدية واستبدلتها بالفكرة السياسية الشيعية التي لا يمكن إلا أن يكون لها صفات تقسيمية وهذا انحراف سيضر بها وبحلفائها وسيضر بغيرها على ما بدأنا نرى ونشاهد.
ولا نستطيع أن نقول أن الطرف المقابل يتصرف بذكاء لاحتواء هذه السياسة في كل الحالات وإن كان قد فعل ذلك في بداية الثورة السورية. ولعل الموقف الأخير للمرجع الديني الشيعي الأعلى في النجف السيد علي السيستاني باعتباره الصراع في سوريا صراعاً سياسياً لا دينياً ومانعاً إجازة مشاركة الشيعة العراقيين في الصراع هناك، لعل هذا الموقف يمثل بداية نهاية هذا الهزل الفكري.
أما الولايات المتحدة فهي في وضع كمون في المدى القصير لسببين في هذا الموضوع. الأول، أنها لا تريد القيام بأي حركة مكلفة قبل استكمال أوباما التخلص من التركة الثقيلة والغبية التي تركها له بوش الابن، وتنفيذ الانسحاب الأميركي العسكري من أفغانستان بعد العراق. وهي حريصة جداً على تقليص خسائرها إلى أقصى حد هناك. حتى إن بعض المصادر الأميركية تتحدث عن تسريع عملية انسحابها العام المقبل مما يجعلها أكثر قدرة بعد ذلك على الفعل السياسي والعسكري من خلال زبائن محليين في أفغانستان وفي باكستان وعلى الحدود الشرقية لإيران. وهذا يفسرعدم حماسة قيادة الأركان الأميركية لأي عمل عسكري قد يقدم لإيران فرصة لتهديد برنامج انسحابهم من أفغانستان إلى حد ترويجها لأسباب طريفة ومضحكة للتردد العسكري الأميركي والأوروبي في المشرق.
هذا بينما مقاتلاتهم الشبحية الحديثة من دون طيارين تزرع الدمار في أنحاء عدة من الإقليم من اليمن حتى باكستان. هاهنا بالضبط يكمن أحد تفسيرات موقف واشنطن الكسول والمتساهل مع كل من موسكو وطهران في لبنان وسوريا وربما العراق. حيث أن العاصمة الأميركية بحاجة إلى تبريد علاقاتها مع العاصمتين المذكورتين ومسايرتهما الى حين استكمال انسحابها من أفغانستان لأن روسيا وإيران تستطيعان إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الأميركية المنسحبة إما مباشرة أو من خلال تنظيمات مسلحة محلية شكلاً ومرتبطة بكل منهما عملياً ومزودة بهويات وإيديولوجيات إسلامية.
السبب الثاني، أن واشنطن لم تتوصل بعد إلى اتفاق مع طهران – إذا كانت ستتوصل فعلا – حول موضوع البرنامج النووي الإيراني. وهي، بالفعل، في حيرة من أمرها في هذه النقطة. فماذا ستفعل إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق؟ هل تلجأ إلى الخيار العسكري الذي تضغط إسرائيل لتسريعه؟ وما هي حزمة الوعود التي يمكن أن تعرضها الولايات المتحدة على طهران لتدفعها للتخلي عن هذا البرنامج أو عن شقه العسكري؟ إن توجيه ضربة عسكرية لإيران ليس صعباً جداً من الناحية العملية، إلا أن المخاوف الأميركية (والعربية) آتية من كون مثل هذه الضربة أو الضربات قد تكون غالية الثمن جداً فالردود الإيرانية قد تشعل منطقة الخليج برمتها مما يؤدي إلى دمار كبير يطال البشر والحجر بما في ذلك المنشآت النفطية ويؤثر على مجمل الاقتصاد العالمي، وليس هذا في مصلحة أحد.
في كل الأحوال، فإنِّ الأمور سائرة إلى نهاياتها في المدى المتوسط. والمؤسف أن الحل العسكري قد يكون على حساب عرب الخليج. أما الحل السلمي فقد يكون على حساب عرب المشرق ووجودهم الأمني البشري والسياسي والثقافي إذا كان ثمن تخلي طهران عن مشروعها النووي سماح واشنطن لها بالتمدد السياسي من حدود باكستان شرقاً حتى بيروت غرباً في المدى القصير والمتوسط!
ومع ذلك، فان المفاجآت واردة بلا شك فأزمات المنطقة متحركة ومعقدة وغير ثابتة في تصوّر واحد أو ضمن إطار جامد. ولدى الأطراف أكثر من وسيلة لقلب الأوضاع في توقيت غير معروف بدقة وإن كنا نرجحه بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان كما أسلفنا، ولو كان الثمن المرتفع الذي سيدفع بالدم والمصالح من نصيب العرب أكانوا خليجيين أم مشرقيين.


أستاذ جامعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم