الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

غربان المال تحوم حول القرنة السوداء

أنطوان الدويهي
غربان المال تحوم حول القرنة السوداء
غربان المال تحوم حول القرنة السوداء
A+ A-

أثار المشروع العقاري، الذي ظهر إلى العلن أخيراً تحت اسم "القمة"، ويقضي بإقامة مجمّعات سكنية وسياحية على سفوح القرنة السوداء (3093 متراً)، أعلى قمم الشرق، قدراً واسعاً من الردود الشاجبة. والحق يقال إن هذا المشروع، الذي أعلنته شركة تُدعى "ريليز دفلوبمنت"، مملوكة من لبنانيين، لديهم كما يقولون، مؤسسة تمويل في أبو ظبي، هو على قدر من الضخامة، والفجاجة، والإثارة، يصعب معها أخذه تماماً على محمل الجدّ.


المشروع الموعود البدء بتنفيذه الصيف المقبل، الذي "تضع مخططه الرئيسي شركة كندية"، يقع على ارتفاع 2400 متر عن سطح البحر، ويمتد على مساحة 420 ألف متر مربّع، وتبلغ مساحته المبنية 250 ألف متر مربّع، تشتمل على 650 شاليهاً و70 فيلاّ، ومؤسسات فندقية وترفيهية، إضافة إلى حلبة تزلج وغير ذلك، بكلفة إجمالية قدرها 500 مليون دولار.


ديناميكية الخراب
هذا المشروع هو، في هذه الحال، أشبه بـ"قنبلة الدمار الشامل"، التي تستهدف الطبيعة، والمشهد، والحياة البرية، النباتية والحيوانية، والثروة المائية الجوفية في جبل المكمل.
ليس في إطار المشروع المشار إليه في حدّ ذاته فحسب، بل أيضاً في تداعياته العقارية المحتومة على كامل سفوح "القرنة السوداء"، من جهاتها الثلاث، جهة إهدن وجهة بشري وجهة الضنية. إذ يكفي أن يجري الاستثمار العقاري في إحدى الجهات الثلاث (مشروع "القمة" هو على الأرجح جهة الضنية)، حتى تُفتَح الطريق أمام الوسطاء والسماسرة والمستثمرين من الجهتين الباقيتين، على أساس الشعار الآتي: "لماذا هم وليس نحن؟ هل نترك لهم وحدهم استغلال الجرد العالي؟"، فيعمّ الخراب. والحقيقة أنه ليس هناك "نحن" و"هم" في هذا المجال، بل طرف واحد في الجهات الثلاث: الرأسمال الأعمى.
لكن مهما كان مشروع "القمة"غريباً وفجّاً، فلا يمكن التغاضي عنه، للأسباب الآتية:
لأن، أولاً، ما لا يمكن تصور حدوثه في أيّ بلد، يمكن أن يحدث في لبنان، حيث الفساد المريع وضعف مؤسسات الدولة والفوضى العارمة في كل مجال، تتيح القفز فوق كل الاعتبارات، وتخطي كل المعايير والقيم، لتحقيق المزيد من الكسب المادي، وخصوصاً في موضوع التعدّي على الطبيعة.
ولأن، ثانياً، الكثير من الوسطاء الماليين اللبنانيين هم على استعداد لفعل أيّ شيء، ولاستباحة كل شيء، من أجل جذب الرساميل التي تؤمّن لهم الحصص والعمولات، ضاربين عرض الحائط بكل المحرّمات. فكيف لا يسوّقون سفوح "القرنة السوداء" ويسعون إلى استثمارها وبيعها؟
ثمّ هناك الكثير من أصحاب الثراء الفاحش في العالم الأقرب والأبعد، الذين يقودهم جنون العظمة، وحبّ التميُّز الفارغ، إلى الرغبة في شراء أراضٍ فوق سطح القمر، فلماذا لا يلوّح لهم الوسطاء والسماسرة بحلم امتلاك منزل في "أعلى جبل في الشرق"؟


الكارثة اللبنانية
ثمّ إن لبنان، الرازح تحت حروبه وأزماته المتوالية، المثقل بكثافته السكانية وفيض اللاجئين إليه، بُلي منذ أكثر من نصف قرن، في زمن الإسمنت المسلّح وتوابعه، بأخطر ما يمكن أن تُبلى به بلاد: أن تتوافر فيها القدرات المالية، أن يتوافر فيها الرأسمال، قبل أن تصل إليها الثقافة، ثقافة البناء وثقافة المشهد وثقافة البيئة. حينئذ تحل الكارثة.
وقد حلّت هذه الكارثة في المدى اللبناني. زاد من هول كارثة البناء في لبنان طوال نصف القرن الأخير، أن القدرات المالية حضرت، ليس في غياب الثقافة فحسب، بل أيضاً في غياب سلطة الدولة، وسط فساد بلا حدود. غياب الثقافة وغياب الدولة.
هكذا، زحف البناء الفوضوي، الهجين، غير المندرج في أيّ رؤية، في أيّ تخطيط مسبق للمكان، سواء أكان المكان مدينة، أم شارعاً، أم قرية، أم ضاحية مدينة، أم شاطئ بحر، أم ضفة نهر، أم أيّ شيء. البناء الخالي من كلّ جمالية، من كلّ طراز معماري، من كلّ ذوق، زحف واحتل كلّ أنحاء لبنان، مشوّهاً المشهد إلى غير رجعة، وملوّثاً الطبيعة تلويثاً خطيراً في عناصرها كافة.
هكذا، امتدّت الكارثة المعمارية، التي لا عودة عنها، في طول لبنان وعرضه، مغطيّةً الشواطئ، والمدن الساحلية، والمناطق الوسطى، والمناطق الداخلية، والمناطق الجبلية ايضاً. والآن، تحوم غربان المال فوق أعالي الجبال، وصولاً إلى "القرنة السوداء".
هكذا يمكن القول إنه ليس من مكان في العالم مثل لبنان، يبرز فيه هذا التناقض المأسوي بين جمال الطبيعة من جهة، وبشاعة الفعل البشري، من جهة أخرى. لقد بدّد الإنسان المعاصر ثروة لبنان الكبرى: جماله الطبيعي وصحّة بيئته. كان عمار لبنان هو خرابه. يشنق نفسه ألفونس دو لامرتين، إن عاد ورأى لبنان الذي وصفه في كتابه "رحلة إلى الشرق".


غربان "القرنة السوداء"
في موضوع غربان المال الحائمة حول "القرنة السوداء" بالذات، لا يمكننا إهمال مشروع "القمة" الدونكيشوتي، لأنه ليس هو المشروع الأول، ولن يكون الأخير. منذ ربع قرن تتوالى المشاريع نفسها، بصيغها العقارية المختلفة، من هذه الجهة أو تلك من سفوح "القرنة السوداء". وقد تكوّنت منذ أكثر من ربع قرن إلى الآن، مجموعة من الوسطاء والسماسرة والمستثمرين، الذين يجهدون في التقرّب من الزعامات السياسية في إهدن وبشرّي والضنية، ويتسربون إلى مجالسها البلدية المتعاقبة، بهدف واحد، متعدد المسالك والوجوه: الصعود إلى جبل المكمل وتنفيذ المشاريع العقارية على هذا السفح أو ذاك من سفوح "القرنة السوداء". ومنطق الاستثمار والبيع والشراء هو الآتي: "نضع يدنا مجّاناً على مشاعات شاسعة في الجرد العالي، نحور وندور و"نشيل ونحطّ" بلفاً وتزويراً على "الطريقة اللبنانية"، نذرّ الرماد في العيون بالكلام على التزلج وعلى المصاعد، ثمّ ننشئ بنى تحتية، نبني فوقها أو لا نبني، ونبيع الأراضي المعدّة للعمار، او الأبنية التي سنشيّدها، بأبهظ الأثمان. اما الخراب العظيم الذي سينتج من أفعالنا، فنغطّيه بالوظائف وفرص العمل التي نقول إننا سنوفّرها، وبالحديث عن ارتفاع أسعار الأراضي الذي سيلي ذلك". وتملك الهيئات المهتمّة بمواجهة هذه المشاريع ملفات ووثائق كثيرة عنها.
لقد برزت مثل هذه المشاريع، على سبيل المثل، جهة السفوح الإهدنية، قبل نحو عقدين من الزمن، مطلع هذا القرن. وعمدنا إلى مواجهتها، فكرياً وعلمياً وإعلاميّاً، طوال سنوات، من خلال "لجنة حماية جرد إهدن وجبل المكمل" التي عملنا على تأليفها لهذه الغاية. وكانت لتلك المواجهة دورها الفعال في كشف ما يجري وعرقلته. ولا بدّ من الإشادة في هذا المجال، في صورة خاصة، بالملحق الثقافي لجريدة "النهار"، وبصفحات "النهار"، في نشرها مواقفنا وتغطيتها تحركاتنا على نحو بارز. وهو موقف تاريخي يُسجَّل لهذه المؤسسة الإعلامية اللبنانية العريقة، التي طالما حملت مشعل الدفاع عن الحريات وعن الطبيعة والمشهد والبيئة في لبنان في أصعب الظروف، والتي تقف اليوم وحدها، ويا للأسف، أمام الصعوبات المادية التي تهدّدها، من دون أن تأبه لمصيرها القوى التي تسمّي نفسها بـ"اللبنانية" في المجتمع اللبناني، وكأنّ شيئاً لم يكن!
بعد ذلك طُويتْ صفحة مشاريع "القرنة السوداء" آنذاك، في مهبّ التحوّلات الكبيرة التي تلت استشهاد الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان والانقسام الحادّ بين 8 و14 آذار وسلسلة الاغتيالات والتفجيرات وحرب تموز وغيرها. إلى أن عادت تلك المشاريع إلى الظهور من جديد في السنين الأخيرة، إلى حدّ أن رئيس بلدية زغرتا - إهدن السابق تحدّث عنها علانيةً في عشاء حاشد في "ساحة الكتلة" في إهدن، مثيراً الكثير من النقد والرفض.
وها هو "آخر الغيث" يطلّ برأسه من جهة الضنية بإسم مشروع "القمة".


الحلّ الواحد الأوحد
ليس هناك، لتجنّب الخراب الكبير إلاّ حلّ واحد أوحد: المطالبة بإنشاء محمية طبيعية ومائية باسم "محميّة سقف الشرق"، تضم منطقة "القرنة السوداء" وسفوحها والجرود العالية حولها. "محمية سقف الشرق" باتت هي الحل الأوحد لإنقاذ هذا المكان، من الرساميل المتأهّبة للصعود إليه من جهات ثلاث، من الضنية، من إهدن، ومن بشري، وربما قريباً، من الهرمل، التي ستقود إلى خرابه. هذه الرساميل، التي فعلت ما فعلته في الشاطئ اللبناني، والمناطق الساحلية، والوسطى، والجبلية، باتت وجهتها الآن الجرد العالي أيضاً. جرد جبل المكمل، خزّان مياه لبنان الأهمّ، بتربته البالغة الحساسية والهشاشة وقابلية الامتصاص، التي لا تحتمل أدنى خلل، كيف ستحتمل مثل هذه المشاريع؟ جرد المكمل بمشهدياته الجمالية الفاتنة، وغاباته البالغة الغنى بثرواتها النباتية والحيوانية، وخصوصاً "محمية حرج إهدن" المتسمة بتنوّعها البيولوجي النادر، وهي مقصد علماء الحياة والطبيعة من كلّ أنحاء العالم، والشاهد الأخير على غابات جبل لبنان والشرق الأوسط القديمين، ماذا سيحلّ بها كلّها وسط الدمار البيئي الشامل الموعود؟
يمكن بعد ذلك العمل على ضم "محميّة سقف الشرق" إلى التراث الطبيعي والثقافي العالمي، الذي ترعاه منظمة الأونيسكو، على غرار وادي قاديشا. بعدها، يمكن القيام في هذه المنطقة الجردية بما تسمح به أنظمة المحمية من نشاطات، وليس سواها.
تجدر الإشارة إلى أنه فضلاً عن أبعاده المشهدية والجمالية الرائعة، يستمدّ جبل المكمل المهيب، المغطّى بثلوجه الأبدية، قيمته الثقافية والرمزية الكبرى من كونه "سقف الشرق"، ومن كون جبل لبنان هو رمز الجمال الأرضي في المخيلة البشرية، على مدى آلاف السنين، من ملحمة غلغامش، إلى أرتور رامبو هاتفاً: "يا لبنانات الحلم!"، مروراً بالتوراة، وبالمصادر الإسلامية، وبالمئات من كتب الرحّالة الأوروبيين من القرن السادس عشر إلى مطلع القرن العشرين.
لتحقيق "محمية سقف الشرق" طريق واحد: تحويل مشروع قانون خاص بها من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب لإقراره. ترافق ذلك حملة إعلامية كبرى، تشارك فيها الجماعات والمؤسسات اللبنانية المعنية، ومنظمة الأونيسكو، وجمعيات الدفاع عن الطبيعة، وجمالية المشاهد، والثروات المائية والحية، والتراثات الثقافية والتاريخية، وجمعيات علوم الحياة، في أوروبا والعالم.
تقع مسؤولية حمل هذا المشروع إلى مجلس الوزراء، ومن ثمّ إقراره في البرلمان اللبناني، في الدرجة الأولى على عاتق نواب زغرتا - الزاوية وبشري والضنية، الذين، عبر كتلهم النيابية والسياسية، يتمتعون بتمثيل واسع في السلطتين التنفيذية والتشريعية. فهل يلبّون نداء الجبل؟


كاتب ومفكر لبناني، دكتور في الأنتروبولوجيا الثقافية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم