الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

الفقه الاسلامي في الدستور: بعض الضغط في العِبارة

شبلي ملاّط
A+ A-

للتعاطي مع الفقه الإسلامي في الدستور طرق مختلفة. أحدها تجاهُل الموضوع بالتمام، وهو ما دأبت عليه معظم الدساتير العربية في القرن العشرين، واستمرت عليه حتى اليوم، مثلاً تونس. طريقٌ آخر يجعل الشريعة الإسلامية نقطةً مرجعيةً في الدستور، إما وحدها أو مع عدد من المراجع الأخرى. هذا ما هو معروف بالمادة الثانية في الدستور المصري المقرّ عام 2012، وفي المادة الثانية من دستور العراق لعام 2005


أقترح هنا طريقاً ثالثاً، أرجو أن يكون مجدِّداً وعلمياً على السواء، بحيث يوفّر حلاً للتعارض بين الفقه الإسلامي في وجهه التراثي وعملية استحضاره الدستوري الراهن.هذا المنهج جزء من النقاش حول الفقه الإسلامي والديموقراطية، ومصالحة المعايير الديموقراطية الأساسية المعتمدة في فضاء حقوق الإنسان الدولي مع التراث الفقهي الإسلامي والشرق الأوسطي.
ومن ناحية الفلسفة السياسية، لا يعتمد الحلّ المطروح على مفهوم سياسي علماني – أُتركْ دينك في البيت، أنت هنا مواطن مجرد منه – بقدر ما يبني على البحث الحثيث في مجموعة غنيّة من الإنتماءات التراثية، أضعها تحت عنوان الشرق الأوسط لأنها غالباً ما تكون مشتركة في الديانات السموية الثلاث وما بين الملايين الذين يتبعونها.
كما أنه مهمّ استحضارُ التراث الوطني الذي تمّ بناء أكثرِه على الدستور في حلّته الغربية، وأقلمتُه وطنياً على امتداد قرنين من العمل الدستوري الشرق الأوسطي. هذا التراث له أثرٌ واضح في النهضة الدستورية إبان الثورة الشرق الأوسطية القائمة. وأخيراً وليس آخراً، لا بد من استثمار النماذج الغنيّة المبعثرة في دساتير العالم. فما منطقُ إقصاء أية تجربة دستورية مفيدة سلباً أو إيجاباً في البحث عن أفضل دستور ممكن للبلاد؟
هذا أيضاً يجعل التركيز مختلفاً عمّا درج في العادة لدى وضع الدستور. فتغييب الفقه الإسلامي بالتمام، كما يحبّذه غلاة العلمانيين، أو انحراف التراث الفقهي الإسلامي في بحر من المراجع الأخرى، كما يتم مثلاً في القانون المدني في كلٍّ من مصر وليبيا، أو مجرّد وضعه جنباً الى جنب مع المعايير العالمية (المادة الثانية من الدستور العراقي)، كلُّ هذا أقلّ نفاذاً وعلميّةً من الإستعمال الفعلي المركّز للفقه الإسلامي كجزء أساسي من التراث الوطني والتراث المشترك في المنطقة.
وهكذا يتمّ النظر الى أفضل ما في التراث لوضع الدستور، كما يبقى للمشترعين والقضاة أن يقوموا بدورهم الإجتهادي لإدخال أنسب ما حفظه التراث في القوانين التي يعتمدونها ويطبقونها لاحقاً، كلّ في عمله الخاص، تشريعاً وقضاءً. هذا هو القسم اليسير من بحثنا.
أما الموضوع الأكثر تعقيداً، فيأتي طرحُه عندما نكبّ على العمل الاستحضاري لهذه القوانين، لا سيما الفقه الإسلامي لِما يحمل من ثراءٍ مميَّز في الشرق الأوسط على امتداد ألفية ونصف.في مثل هكذا نصٍّ أساسيٍّ كالدستور، يبدو النقاش حول ما إذا كانت المادة الثانية نموذجية أفضل مع "ال" التعريف أو من دونها خطأً منهجياً. فإذا أردنا أن نكون جدّيين في التعاطي مع الفقه الإسلامي، علينا أن نستفيد من ثراه في نص الدستور نفسه.
فبدلاً من التساؤل عن الإشارة الى مرجعيّةٍ يُترك وقْعُها لوقت لاحق، السؤال الملحّ للتراث الإسلامي القانوني على امتداد الشرق الأوسط هو استحضاره بما يجعله أساسياً في القطيعة المرجوّة مع الإستبداد الذي تخلّصنا منه في الثورة. وإذا أردنا أن ندخل التراث الفقهي الى صلب الدستور، فما فائدة تأجيله الى مستقبل التشريع على منهاج المادة الثانية؟ مقابل التأجيل لا بدّ من التركيز على ما يقدِّمه الفقه الإسلامي الى الدستور الذي نخطُّه الآن.
في عملية وضع الدستور، أود طرح منهج يختلف جذرياً عن الطرق المتّبعة عموماً في دساتير الشرق الأوسط. ليس صعباً إرجاء الفقه الاسلامي كمرجع مستقبلي للتشريع على أساس نموذج المادة الثانية. أما إذا أردنا أخذ الفقه الاسلامي على محمل الجدّ، فعلينا إدخاله في صلب الدستور الذي نعمل عليه الآن. كيف يأخذ الدستور الفقه الاسلامي على محمل الجدّ في الفضاء الدستوري، وبشكل خاص في لائحة حقوق الانسان التي نجهزها في دساتيرنا؟
يوفِّر التراث الفقهي الإسلامي كنزاً لا مثيل له من الحقوق والواجبات في الفضاء الدستوري. فالحجة هي في إحياء عِلْميّ لهذا التراث بالإقدام على البحث عن التفاعل بين الرصيد الدستوري الوطني، بما فيه رصيد الفقه الدفين، وعددٍ من النماذج المقارنة والدولية التي تتناول الحقوق الأساسية. ومثل هذا التفاعل يتمّ تطويره لاحقاً في المحاكم الدستورية، لكن علينا أن نبدأ هذا الجهد في عملية وضع الدستور نفسه.
وأودّ طرح ما لَسْتُ بصدده هنا. بعض المهتمّين بوضع الدساتير يطوّرون عدداً من "الإعلانات الإسلامية في حقوق الإنسان"، تختار نصوصاً مختلفة موجودة دولياً فيتمّ تزيينها بعددٍ من الإستثناءات للفقرات التي تبدو غير متوافقة مع مبادئ الشريعة. هذا دأبٌ معتاد، إلا أنّه لم يَفِ بغرض المهتمين بالموضوع داخل الأمّة، أو لِمَنْ يقرأ هذه النصوص من خارجها. أمّا بالنسبة للجمهور الأوسع من المدافعين عن حقوق الإنسان، فإن الإستثناءات هذه تشكّل عبئاً على صلب هذه الحقوق وتفرغها من مضمونها الأساسي. مثل هذه النصوص المرَكَّبة وما يرافقها من جهدٍ لدمج استثناءات لحقوق عالمية كُتبت في الغرب، لا أفقَ لها.
المنهج المطروح مختلفٌ تماماً. يبدأ من التراث الفقهي نفسه، متبعاً سابقة وضع القانون المدني على امتداد القرنين الماضيين. فالتساؤل عن سير الناس في سياق المجلة العثماني من دون التساؤل عن شرعيتها الفقهية، والشكوك المستمرة في المقابل عن الشرعية الفقهية للقانون المدني المصري رغم حديث السنهوري المتواتر عن جهوده التوفيقيّة مع الفقه الإسلامي، هذا السؤال يجد جوابه في الأسلوب وليس في المضمون.
هذا أيضاً صحيح بالنسبة لوضع الدساتير، ولا أعرف بلداً جهد في وضع دستوره متّبِعاً المنهج الذي سار عليه واضعو المجلة وأخواتها. هذا المنهج، الذي يركّز على الأسلوب لتوفير المضمون الفقهي المناسب هو ما أعرضه على التطبيق الآن في القسم المتعلق بحرية المعتقد الديني في لائحة حقوق الإنسان في الدستور العتيد.


تطبيق
الآية القرآنية مشهورة: "لا إكراه في الدين" ("البقرة" 2: 256). الدين هو خيار لا يمكن إكراه أحدٍ عليه، والفرد مفطور على اختيار دينه حراً من أي إكراه. المواطن هو من يقرر اعتناق دينه ورفضه، ومدى تديّنه. لا محلّ في المجال الديني لأيِّ إكراه. حرّية الدين مطلقة، والآية واضحة مركَّزة، دقيقة ومطلقة. أربع كلمات: "لا إكراه في الدين".
ما يوازي هذه الآية في لوائح حقوق الإنسان الوطنية والدولية متوافر بشتّى الأشكال، نختار منها هنا أربعة أمثلة.
تنص المادة 18 من الإعلان الفرنسي عن حقوق الإنسان لعام 1789 على التالي: "لا يجوز إقلاق أي شخص بسبب معتقداته، بما فيها معتقده الديني، طالما لا يُهدد التعبير عنه الأمنَ العام الذي يوفره القانون". وتشمل المادة حرية الرأي وحرية الدين، وترهنهما باستثناء الأمن العام.
وتمّ إقرار النص الأميركي المماثل في الوقت نفسه في ما يسمى بالتعديل الأول First Amendment للدستور: «لن يقرّ الكونغرس أيَّ قانون يتعلق بتثبيت الدين، أو بمنع التعبير الحرّ له». ويبدو نصاً مانعاً قاطعاً للمشترع عن التعرض للدين سلباً أو إيجاباً عندما يسُنّ القوانين.
وديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أكثرُ دقّةً، تنصُّ في المادة 18 منه أنّ "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة".
وفي نصوصنا المختارة تأتي الفقرة 15 في الفصل الثاني من دستور افريقيا الجنوبية بعنوان "حرية الدين والمعتقد والرأي" على التالي: "لكلٍّ الحق في حرية الضمير، والدين، والفكر، والمعتقد، والرأي...".
يمكن تعداد الكثير من الأمثلة الأخرى، لكن الحجة واضحة. لا يتحلّى أي من هذه النصوص بنكهة فقهية إسلامية ، وليس هنالك من سبب يقضي بتفضيل أي من هذه المواد الأربع على القاعدة القرآنية أنّه قطعاً لا إكراه في الدين. الأسلوب مختلف والمضمون واحد. ما تسطره الديباجة الدستورية لكل من الأمثلة أعلاه قد يوفِّر دِقَّةً أكثر في الموضوع، إلا أنه يخسر قوَّة الآية في الحِفظ، والجمال، والعنفوان، ويخسر الهويّة والتراث. لا إكراه في الدين يعني لا إكراه في الدين، لا إكراه من قبل الدولة ، أو من أيّ عاملٍ فيها، أو من أي مواطن آخر، أو من أي حلقة من حلقات المجتمع الأوسع. لاإكراه في الدين آية تعبّر بقوة عن المطلب الدستوري القاضي للجميع بـ"الحق في حرية التفكير والضمير والدين، وحرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة"، على ما جاءت عليه المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو لأية عبارة مماثلة في النصوص الدستورية الأخرى التي ذكرناها.
قد يُفضي تحويل الآية كما هي مادة دستورية الى بعض الضغط في العبارة، وبعض القصور عن المرتجى في التفصيل القانوني. وكما هو معروف فإن بعض التفاسير الفقهية لمبدأ الحرية الذي تعبّر عنه الآية القرآنية برفض الإكراه في الدين على الإطلاق، هي تفاسير تسمح بالإكراه الجماعي على اعتناق الإسلام بحجة الغزوات التاريخية، أو منع الرّدَّة، أو معاقبة المتهم برفض المبادىء الثانوية المتفرعة فقهياً (مثلاً في شرب الخمرة، أو الزنا، أو لبس الحجاب). ومثل هذه التفسيرات كانت رائجة في مراحل مختلفة من التاريخ، لكنَّها جميعها تفسيرات تخالف بوضوح نص الآية القرآنية المطلق. ويخالف التراث القانوني الأقرب في الشرق الأوسط هذه التفاسير الحادة، ويترك للفرد حرّية ممارسة دينه، وتغييره، واتباع الواجبات التي يراها مهمة في الدين الذي يلتزم به. فلا معنى لفرض قراءة قاسية مخالفة النص القرآني الجليّ على واضع الدستور في القرن الحادي والعشرين.
هذا يجعل كتابة الفقرة الخاصة بالمعتقد الديني في الدستور موضوعاً شيّقاً رحباً يعتمد أسلوباً يعبّر عن مبدأ عالمي لحقوق الإنسان بلغة يرتاح اليها المواطن على الفطرة في اعادة اكتشاف روائع الفقه في تراثنا.
فبدلاً من ترجمة أي من الأمثلة الأربعة التي قدمنا، وهي جميعها غربية في تراثها الفقهي الغربي، أو اعتماد لائحة للقوانين كلّها استثناءات تفرغ الحقّ من مضمونه، – في الحالة الأولى رسم الفقه الإسلامي عدواً للتطور، وفي الحالة الثانية اعتباره المرجع الوحيد للتطوّر –، يكون بناء لائحة للحقوق في فقه الشرق الأوسط ، والفقه الاسلامي بالأخصّ، بمثابة رديف دستوري يغنينا عن منهج المادة الثانية الكسول.
هذا جهد جبّار، لكنه جهدٌ يرقى الى تطلعات الثورة اللاعنفية في الشرق الأوسط، وهو جهدٌ قد يؤدي الى عالمية الفقه الإسلامي بشكل غير مسبوق في التاريخ.


استاذ في الحقوق – جامعة يوتاه الاميركية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم