الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

المُتعصّبون أو الوحوش الجُدد

المصدر: "النهار"
رلى راشد
المُتعصّبون أو الوحوش الجُدد
المُتعصّبون أو الوحوش الجُدد
A+ A-

أنتج إميل سيوران الصوت الفلسفي الفرنسيّ من أصول رومانيّة منجزاّ تهكّمياً وسِم بطعم النهايات والتشاؤم، وحيث مرّ بمحطة تأسيسيّة تمثّلت بكتابه "في عيب أن يكون المرء قد ولد". في نصه هذا تناول مسألة التعصّب ليعاينها صنوة موت الأحاديث، قبل أن يزيد "لا نُثرثر مع أحد المُرشحين إلى الشهادة. فماذا يمكن أن يُقال لشخص يرفض إستيعاب مُبرراتِكَ، وفي حال لم نخضع لمُبرراتِهِ، فضّل الموت على التنازل".
لا شكّ في أن في منظور سيوران صوابيّة تخُصّ توصيف ردّة فعل المُتعصّب إزاء أي شخص يحاول محاججته، والحال ان المُتعصّب يؤتمن على جوانب عدة تشمل الجانب الفلسفي والسوسيولوجي والأنثروبولوجي ناهيك بالنفسي وسواها، علماً ان جميع هذه المقتربات تتقاطع، على نحو ما، ومن الضروري العودة إليها جميعها، في حال أردنا الإحاطة بصورة التعصّب وببورتريهات ممارسيه.
في زمن استئثار الشعبويّة بالسياسة وسيادة الآراء المُتعصّبة والمصابة برهاب الإختلاف، يغوص جيرار حدّاد التونسيّ المولد والفرنسيّ الجنسيّة في مؤلّفه "في يمين المَولى" الذي صدر حديثاً في بيروت لدى "دار الجديد" منقولاً إلى العربية من الفرنسيّة، في مفهوم آنٍ باحثا عن تزويدنا بمفاتيح لفهم ما قد يعصى على الفهم على نحو تلقائي.
يوضح عالم النفس حدّاد في المقدمة ان بحثه لم يصدر من متابعة لمُجريات الحوادث اليوميّة وإنما انبثق من ندوة عِلمِيّة عُقدت في تونس، ولا يتأخّر في تحديد التعصّب بوصفه "كراهة التمايز والإختلاف بما في ذلك إختلاف الثقافات" والمُحرّك الأول لجميع صنوف الحروب.
يروح بعدذاك، في الفصل الأول، يستدعي ماهيّة التعصّب من طريق استعادة مجريات القرن العشرين الذي شهد على انفلات غير مسبوق للعنف في موازاة تطوّر في مجال العلوم والتقنيات، ثم يصل إلى مطلع القرن الواحد والعشرين وإلى تشخيص "النزاعات ذات الحدّة المتدنّية"، أي الحروب المحليّة التي حلّت مكان الحروب الكونيّة.
ينعت حداد المُتعصّبين المعاصرين بالوحوش الجُدد الذين حلّوا مكان ممارسي التوتاليتاريّة، ويجد أن صفة التعصّب الأولى تكمن في أن يكره المرء حدّ القتل كل من لا يشاطره الإيمان نفسه، ليُحدّد الصفة الثانية للتعّصب (بوصفه مرضاً من أمراض النفس) بقدرته على إصابة الآخرين بالعدوى.
من اللافت أن يشبّه حداد التعصّب بمرض السيدا، أي بمرض فقد المناعة لقدرته على "تعطيل الدفاعات التي يعدّها الجسم للتصدي له"، قبل أن يجزم ان المحفّزات على هذا النسق من الشرور خارجة في جزء منها عن الوعي، وهذا ما يفسّر في منطقه، أن يستعين بالتحليل النفسي لفهمها. لا يلبث أن يلاحق المتعصّب الذي يتوهّم انه هو نفسه في يمين المولى وأن أي تصوّر للحقيقة يخالف تصوّره هو لها، يطعن في صاحب ذلك التصوّر المخالف ويحيله إلى كائن دونيّ لا يستحق الحياة.
وعلى ما يتراءى فإن هذه السلطة التي يعطيها لنفسه في منح الحياة أو في حجبها تضيء على نسق من النزعات المرضيّة التي صادفناها في محيطنا القريب وحيث رفّعت لغة الموت فوق أي لغة سواها.
يسأل حداد في بحثه إذا كان التعصّب سليل الكونيّة وإذا كان التوحيد فراش التعصّب قبل أن يصل إلى محاولة تفكيك خطاب التعصّب الذي يتبدى على قدر من الجاذبية على خلفية قدرته على أن يضفي "معنى ما على كل شيء، بما في ذلك على أعتى النوائب وأفجعها".
تبنّى عالم النفس الفرنسي الشهير جاك لاكان، حدّاد، كما يرد في عنوان أحد كتب التونسي-الجزائري وحيث استعاد تجربة خضوعه لعلاج على يدي لاكان تولّى تبديل وجهة حياته. وها هو التلميذ يعود إلى المُعلّم صوب نهاية بحثه في سياق اللفت إلى انه لا يبدو على المتعصّب ما يشي بأي اضطراب محدّد. وها إنه يؤكد على صوابيّة رأي لاكان في أن الشخص الذي نصفه بـ "الطبيعي" أي الذي لا تظهر عليه عوارض أي اضطراب هو الأقرب إلى الإضطراب. وأن هذا القبيل من "الطبيعيّة" هو ما أطلقت عليه حنّة آرندت تلك التسمية المثيرة للجدال "عاميّة الشرّ وعاديّته".
لا يقدم حدّاد خواتيم سحريّة، ولا يرغب في الإدعاء بأن ثمة حلاً نهائياً لمشكلة التعصّب. جلّ ما يقوله إن كل الممكن هو التصدّي المتواصل لهذه المشكلة تحت كل الوجوه التي قد تظهر عليها.
أمّا التحدي الأصعب ربما ففي إيجاد أولئك القادرين على إنجاز مهمة مماثلة.


 


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم