الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"النهار" تحاور ناجي شامل حول والده الراحل محمد شامل: كان يقول: "الفنّان في لبنان يموت شحّاذًا"

لارا ملك
"النهار" تحاور ناجي شامل حول والده الراحل محمد شامل: كان يقول: "الفنّان في لبنان يموت شحّاذًا"
"النهار" تحاور ناجي شامل حول والده الراحل محمد شامل: كان يقول: "الفنّان في لبنان يموت شحّاذًا"
A+ A-

محمد شامل قلمٌ غزيرٌ لم ينضب يومًا. فكرٌ كثيفٌ استطاع مقاربة شؤون الحياة بحكمةٍ ووعي ومحبّة. وفيّ، والوفاء الأوّل لحريّته وكرامته وقلمه وإنسانيّته. له فضلٌ كبيرٌ على المسرح اللبنانيّ، والفنّ الإذاعيّ وفنّ الكوميديا. أرسى قواعد الكتابة المسرحيّة والدراميّة في لبنان في القرن الماضي. أطلق الكثير من الفنّانين والموهوبين الّذين بنوا الثقافة، لعلّ أهمّهم وأكثرهم شهرةً المسرحيّ الكوميديّ حسن علاء الدّين، المعروف بشوشو. هو المختار الحكيم في مسلسلاته. يقتنص الحكمة ويغلّفها بطرفة، صاحب حسٍّ فكاهيٍّ عالٍ، هدفه وهمّه بناء مجتمع أفضل وأكثر إنسانيّة. أستاذٌ ناجحٌ مارس التعليم ملتزمًا القيم التي آمن بها. كان معطاءً في كلّ المجالات التي عمل فيها، وعطاؤه تعويضٌ لمعاناةٍ عظيمة أثقلت روحه وجسده منذ ولادته. كريم الفكر، متواضع الروح، هكذا كان دوماً.


■ كيف كانت طفولة محمّد شامل وبداياته الفنيّة والمهنيّة؟
- ولد أبي سنة 1909. توفيت والدته عندما كان في الشهر السادس. بعد ذلك تزوّج والده من شقيقة أمّه. عانى طفولةً قاسيةً بسبب ظلم خالته وقسوة والده، لكن جدّه وجدّته عوّضا له القليل من العطف والحنان. لم تسمح له خالته بالتعلّم، وألزمتْهُ أن يرافق ابنها أي أخاه شفيق، الممثّل المعروف بدور "الدروندي"، إلى المدرسة. كان أبي توّاقًا إلى المعرفة لكنّه حُرم منها. الظّلم الذي قاساه في طفولته لم تنتهِ آثاره في شخصيّته، وحياته. كان يبكي كلّ مرّةٍ في عيد الأم، وافتقد عطفها طوال حياته. افتقد الأمان العاطفيّ، وظهر ذلك في مخاوف غير منطقيّة كثيرة كانت تقلقه، منها خوفه غير المبرّر من ركوب الطائرة، ومن الأماكن المغلقة، فكان ينزعج كثيرًا إن أقفل أحد دونه الباب. هذه المخاوف كانت دليل فقدان الأمان العاطفيّ والاستقرار. بداياته في الكوميديا تعرّف بالكوميديّ الكبير عبد الرحمن مرعي، واشتركا في تمثيل البرنامج الإذاعي الكوميديّ "شامل ومرعي" في "إذاعة الشرق الأدنى"، الذي ألّف هو حلقاته.عندما مات مرعي حزن والدي حزنًا شديدًا عليه وتوقف عن الكتابة، لكنّه عاد بعد فترة إلى نشاطه، وساهم في تأسيس إذاعة لبنان، وأطلق شوشو في تلفزيون لبنان وكتب له.
قاوم والدي الألم طوال حياته، ونجح. حُرم حقّه في التعلّم وهو طفل، لكنه لم يستسلم. كدّ واجتهد حتّى تعلّم بمفرده، إلى درجة أنّه كان إذا رأى ورقةً على الأرض في الشارع كان يلتقطها ويحاول قراءتها. في النهاية فاق أخاه في العلم والثقافة، وأصبح في ما بعد أستاذًا يدرّس اللغة العربيّة والدين والقرآن، ومديرًا لمدرسة مقاصدية. كانوا يستعينون به في كتابة اللغة العربيّة وتدقيقها في البرامج. كتب أطروحةً مهمّةً في أدب الخوارج، أثنى عليها المتخصّصون، ومنهم فؤاد أفرام البستانيّ الّذي قدّر عمله وقدّم له وسامًا وشهادة تقدير. عاند الحرمان وصبر عليه، حتّى حقّق حلمه في المعرفة وفي الحياة.


■ كان غزير الإنتاج، ما العوامل والصفات الّتي ساعدته في ذلك؟
- كان محمّد شامل غزير الإنتاج فعلاً. كتب أكثر من ثلاثين ألف نصٍّ بين الإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما، منها "الدنيا هيك"، "يا صبر أيّوب"، "عالماشي"، "خلي بالك من شوشو"، "يوميّات شوشو بك" وغيرها. منذ سنواتٍ بدأتُ بأرشفة إنتاجه وهذا يتطلّب جهدًا كبيرًا. ساعده في ذلك اندفاعه الإنسانيّ للإبداع ونشر الثقافة والتوعية، وطموحه لتحسين المجتمع، وإرساء القيم التي آمن بها. خياله الرحب ساعده في القدرة على بناء الألوف من المشاهد التمثيليّة بناءً صحيحًا مع التوفيق في التفاعل والأداء والحوار بين الممثّلين على اختلاف شخصيّاتهم. شخصيّته الليّنة والمتّزنة سمحت له بالتنوّع في الأداء والمواضيع. جمع بين الأدب الفصيح والأدب الشعبيّ، وألّف برامج كوميديّة وبرامج دينيّة منها "يا هادي". هذا الجمع المتنوّع مع الغزارة قليلٌ ما نرى مثله عند مؤلّف".


■ كيف كنت علاقته بالفنان حسن علاء الدين المعروف بشوشو؟
- محمّد شامل هو من اكتشف شخصيّة شوشو، واختار له هذا الاسم وأطلقه، وكتب له بدايةً برامج تسليةٍ للأطفال، ومن ثمّ ألّف له أكثر من مسرحيّة، كما أطلقه في السينما في فيلم "شوشو والمليون". المرّة الأولى التي التقيا فيها كانت في مدرسة. كان شوشو شابًّا، أتى إلى أبي في مكتبه ودعاه إلى عرضٍ مسرحيّ. لم يُعجبْ والدي في المرّة الأولى بتمثيله وبحركاته، لكنّ شوشو أصرّ على إقناعه بموهبته، وظلّ مرافقًا له حتّى أُعجب بإصراره وطموحه وأعجب مع الوقت بشخصيّته. عندها قرّر أن يُطلقه في "دنيا الأطفال" على شاشة تلفزيون لبنان. لم يتقبّله الناس سريعاً، وكانت ترد اتّصالاتٌ على التلفزيون تعترض على تقديم شخصيّة شوشو للأطفال بسبب لهجته وطريقة تحرّكه، لكنّهم بعد فترةٍ أحبّوه، فهو مسرحيٌّ بالفطرة. تعاونا في أعمالٍ كثيرة، وكان الألم والابتسامة من الصفات المشتركة بينهما. كان شوشو كثيرًا ما يبكي في الكواليس من الوجع، وعندما تُفتح الستارة يؤدّي دوره بطريقةٍ مثاليّة. حين مات شوشو كتب له أبي نصًّا شعريًّا مؤثّرًا، أذكرُ من مطلعه "مررتُ بالمسرح الحزين وسألتُ أين شوشو وأمسياته".


■ كان محمّد شامل متعدّد القدرات، ومن المواهب الّتي لا يعرفها الناس عنه نظم الشعر. كيف تصف محمّد شامل الشاعر؟
- عشقَ اللغة العربيّة وكان ضليعًا فيها، نظم الشعر وكان بارعًا، لكنّ الناس لم تعرفه كشاعر، لأنّ العمل في التأليف المسرحيّ والتلفزيونيّ أخذ أغلبيّة وقته ونتاجه.


■ كيف كانت علاقته بك وبكلّ أولاده، وكيف انعكست طبيعة هذه العلاقة على إنتاجه؟
- كان أبي حنونًا وليّنًا معنا، وذلك لأنّه كان في أعماقه طفلًا. الطفولة رافقته في تعامله معنا وفي كتاباته التي وضعها للأطفال. تعلّمنا منه الكثير، وما زلتُ حتّى اليوم كلّما قرأتُ له نصًّا أو رأيتُ مشهداً من تأليفه أتعلّم منه، ومن حكمته وسعة معرفته، ونظرته الصحيحة والسليمة للأمور. دعمنا في مواهبنا، اكتشف في أخي يوسف الشخصيّة الكوميديّة وكتب له دور "علّوش"، وشجّعني للاستمرار في التلحين والتأليف. عملنا معًا على عددٍ من المسرحيّات والحلقات الإذاعيّة، وكان دائمًا ينبّهنا إلى أنّ الفنّان في بلادنا يموت شحّاذًا.
مارس والدي أيضاً مهنة التدريس وفرض على الهيئة التعليميّة احترام كلّ تلميذ، وعدم التعرّض لأحد بالإساءة والعنف، مع العلم أنّ التعليم في القرن الماضي كان مبنيًّا على التعنيف والضرب. أحبّ الطلّاب، واعتبر العلم حقًّا مقدّسًا لكلّ إنسان، لذلك كان يسمح لطلّابٍ فقراء بالتعلّم من دون دفع أيّ رسم، كي لا يُحرموا هذا الحقّ كما حصل معه.


■ كانت تربطه بالسياسيّين والطبقة السياسيّة في لبنان علاقات كثيرة. هل كانت له مواقف سياسيّة معيّنة؟
- لم يتدخّل محمّد شامل بالسياسة، ولم يطلق أيّ رأيٍ سياسيّ، لأنّه كره القسمة بين أبناء الوطن. كتب برامج عديدة للتوعية ضدّ الطائفيّة، دعا فيها إلى التآخي بين اللبنانيّين، منها "عالماشي"، و"شويّة حكي". العديد من السياسيّين كرّموه وأحبّوه لشعبيّته بين الناس، ومنهم الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح، وقد روى لي والدي موقفًا حصل بينه وبين الرئيس بشارة الخوري. كان الرئيس يومها يقيم حفل غداءٍ في القصر الرئاسيّ في بيت الدين، وأرسل فرقة من الحرس الرئاسيّ في طلبه ليشاركهم الغداء. جلسا على انفراد. قال له الرئيس في بداية اللقاء "فلنجلس كما كان يجلس أجدادنا على الأرض"، وتحدّثا في الشعر والأدب والثقافة مطوّلًا. عندما جهز الغداء، خرجا معًا من الغرفة وسارا نحو غرفة الطعام، تنبّه والدي حينها إلى أنّه يسير إلى جانب الرئيس، ورئيسا مجلس النوّاب ومجلس الوزراء يسيران خلفه إضافةً إلى نوّابٍ ووزراء كثر. خجل أبي في هذا الموقف، لكنّ الرئيس الخوري وتكريمًا له ولفكره، خرق البروتوكول في ذلك اليوم وأجلسه إلى يمينه. إلى هذا الحدّ فرضت موهبته احترامه بين الناس.


■ هل تذكر لحظاته في ساعة الإبداع والكتابة عندما كنتَ صغيرًا؟
- كانت لديه طاولةٌ خشبيّةٌ في زاوية بمحاذاة سريره وقلمٌ ودفتر. كان يجلس كثيرًا هناك، كأنّ هذه الزاوية نافذته على الخيال. تلك الجلسة الإبداعيّة مُنعَ علينا أن نقاطعه خلالها، أو حتّى أن نتحدّث إليه ولو بكلمة، لأن للحظة الإبداعيّة قدسيّتها فإن غابت الفكرة قبل أن تكتمل ضاعت. هذه اللحظة لا تتكرّر، وكان لهذا السبب مخلصًا لها، ولعلّ هذا أيضًا أحد أسباب غزارة إنتاجه وتنوّعه.


■ كيف تصف الكوميديا اليوم من دون محمّد شامل وشوشو؟
- لا كوميديا فعليًّا اليوم في لبنان، نفتقر إلى مؤلّفين حقيقيّين في هذا المجال. في الماضي اشتهر مؤلّفون مهمّون، منهم أنطوان غندور، ومروان العبد، وصلاح تيزاني، وغيرهم. أمّا اليوم فنفتقر إلى الابتكار. ابن شوشو خضر علاء الدّين، على سبيل المثل، لم يستطع تأدية دوره في الكوميديا، مع أنّه تخصّص في الإخراج والتمثيل في أميركا، غير أنّه لم يبتكر شخصيّته الخاصّة ومسيرته الشخصيّة، بل حاول إعادة إحياء عصر أبيه عبر تجديد أعماله، وهذا لا يمكن تحقيقه. النظر يجب أن يكون إلى المستقبل، وإلى الابتكار والخلق الجديد. جورج خبّاز يؤدّي عملّا مميّزًا، لكن لو أدّى أدوارًا ومشاهد من تأليف أحدٍ سواه لنوّع في الأسلوب أكثر، والتنوّع أساس أيّ عملٍ فنيّ.


■ ما أهمّ القيم التي أرساها والدك في نفسك؟
- تعلّمتُ منه الكثير، ولا أزال. علّمني الصبر والحنان، والتواضع. كان متواضعًا مع جميع الناس، أحبّه كلّ من عرفه. وأهمّ نصيحةٍ أسداها إليّ "إيّاك أن تذلّ نفسك، إعمل في سبيل ما تريد، وإن استحال عليك النجاح غضّ النظر عن الهدف". تعلّمتُ منه أيضًا الرحمة، أن أكون رحومًا مع كلّ مخلوقات الكون. رحمته ومحبّته كانتا تظهران حتّى في تعامله مع الحيوانات. أحبّ كلّ مخلوقات الوجود بطيبةٍ ورهافة حسّ. علّمني أيضًا الحكمة في المواقف الصعبة، واحترام الآخرين. كان يكره الغدر، ومن يتّصف به، فمن يغدر يسقط من قيمته كفردٍ وإنسان.


■ هل انتهى عصر محمّد شامل؟ وهل يصحّ فيه لقب "الجنديّ المجهول"؟
- محمد شامل هو من أسّس الإذاعة اللبنانيّة، وأرسى قواعد العمل الإذاعيّ والتلفزيونيّ والمسرحيّ. شارك في تأسيس مهرجانات بعلبك، وكان أوّل من شجّع صباح على الغناء في هذه المهرجانات عندما كانت في الثانية عشرة، وأوّل من لاحظ شخصيّتها الفنيّة. نشر الثقافة والوعي بين الناس، وساهم في بناء الذاكرة الثقافيّة، وما زالت آثار أعماله بادية للعيان. جيل اليوم لا يعرف محمّد شامل، لأنّ الدولة لا تهتمّ بتكريمه وإحياء ذكراه، إضافةً إلى النقابات الفنيّة التي نسيت أنّه من أوائل من أسّسها. هو الجنديّ المجهول الذي بنى وأعطى، ومفاعيل هذا العطاء في تطوّر الفنّ اللبنانيّ ثابتةٌ وواضحة ومستمرّة في المستقبل، لكنّ المسؤولين في الدولة والنقابات الفنيّة والصحافة يتجاهلونه. إنّه عصر "الأنا" الذي لا يهتمّ فيه أحدٌ إلّا بأناه، ولا يقيم اعتبارًا لعطاء غيره".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم