السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

تسالونيك ٥٧- أميركا ايرا ساكس: طيّبون لا تنقذهم الأخلاق

المصدر: "النهار"
تسالونيك ٥٧- أميركا ايرا ساكس: طيّبون لا تنقذهم الأخلاق
تسالونيك ٥٧- أميركا ايرا ساكس: طيّبون لا تنقذهم الأخلاق
A+ A-

رقيق كالنسيم، موغل في العاطفة البشرية كقصيدة، متقن الصنع كفيلم لميشاييل هانيكه. هذه بعض الصفات التي يمكن ذكرها عند الحديث عن جديد المخرج الأميركي ايرا ساكس، "رجال صغار"، الذي شاهدناه في مهرجان #تسالونيك السابع والخمسين (٣ - ١٣ الجاري) ضمن برنامج "آفاق مفتوحة"، وكان قبل ذلك شارك في كلٍّ من سندانس وبرلين. ساكس، هذا النيويوركي الخمسيني يهوديٌ مثلي من ممفيس، وسبق أن أتحفنا بـ"الحب غريب"، عن صراع رجلين مثليين يعيشان معاً منذ سنوات ضد قيم المجتمع المحافظ، انتصاراً للمساواة الجندرية. ساكس هو الآن السينمائي الأميركي المستقل الذي يمضي صعوداً، بعد حفنة أفلام ظلّ صداها محدوداً في العقد الماضي. إنه "الـ"مخرج الذي ينبغي متابعته عن كثب. وعندما نشاهد فيلميه الأخيرين ندرك لماذا.



 


 


فهو يصوّر ما لا تصوّره عادة الأفلام الأميركية الواسعة الانتشار، التي، على أهميتها، لا تملك الوقت ولا الرغبة ولا القدرة على التوقف طويلاً عند العلاقات البشرية الأكثر عمقاً وتعقيداً. تلك الأفلام المهمومة بتمرير المعلومات على حساب الانفعال. يعتني ساكس، قبل أي شيء آخر، بشخصياته كما لو كانت بؤبؤ عينيه. لشخوصه حضورٌ استثنائي داخل الكادر. إنّه الرونق، الكلمة، الصدى، الصراحة، أيّ كلّ تلك الأشياء التي اعتقدناها اندثرت مع سيطرة #سينما القصة على سينما الشخصيات. شخوص ساكس من لحم ودمّ، لا مجرد وجوه يتم لبسها كقناع يخفي وجوهاً أخرى. وتتجلى هذه النزعة لديه في مشهد درس التمثيل على يد أستاذ الفنّ الدراماتيكي، إذ أنّ محاولة بعد أخرى نرى الصبي الذي يدرس وهو يخرج من شخصيته ليلمس أناه الحقيقية. في حين أنّ كثراً من السينمائيين يلتقطون شخصيات عادية ويضعونها في ظروف استثنائية، تُقدم أفلام ساكس على فعل العكس: يدرج شخصيات استثنائية في أوضاع عادية. سينما ساكس هي سينما الإنسان بمكوناتها البعيدة جداً من العاطفة البخسة والبكائيات التي تلعب على نقاط حساسة. كلّ شيء بسيط ومتقشف، لا مكان للافتعال، من تكشيل الكادر إلى الحكاية، فأسلوب السرد المعتمد ومسار الكاميرا. بيد أنّ هذه البساطة هي خلاصة تآلف طويل بين المخرج وبيئته النيويوركية التي يطرحها. لكن لا يكفي التآلف، فثمة كيمياء تتكفّل بكلّ ما يجعل أفلام ساكس نيويوركية بنكهة ماركسية قوية.



 


الحكاية في "رجال صغار" بسيطة جداً: عائلة جاردين المؤلفة من ثلاثة أفراد، الأب والأم وابنهما المراهق، ينتقلون من شقتهم الصغيرة في مانهاتن حيث أصبحت الحياة مكلفة جداً، إلى منزل في بروكلين ورثه الأب (غريغ كينر) عن والده. هناك في أسفل المبنى محل تجاري تديره سيدة من أصل تشيلياني تصنع ملابس نسائية، وهي أم لصبي من عمر ابن عائلة جاردين. المشكلة أنّ السيدة هذه تشغل هذا المكان بناءً على عقد شفهي "أخوي" مع صاحب الملك (الأب الراحل)، إلا أنّ الأوضاع المادية السيئة لعائلة جاردين ستضطرّها إلى اقتراح عقد جديد على السيدة، فاتحة مشكلات كثيرة ستنتقل سريعاً إلى علاقة الصداقة التي تربط الابنين الصديقين.


ما يطرحه الفيلم بنظرة حنونة ونادرة وغير منحازة، هي ظاهرة السراوة التي تشهدها كلّ العواصم الكبيرة، بحيث "تستولي" طبقة أرقى تملك قدرة شرائية أكبر على الأحياء الشعبية (حيث الطبقة الوسطى)، فتتبدل هويتها الأصلية وترتفع الأسعار ولا يعود للمهن الصغيرة والحرف مكان وسط طغيان المال والاستثمار في الترفيه والاستهلاك. اللافت أنّ ساكس، وخلافاً للكثير من الأفلام المناضلة المندّدة بالتغيير الاجتماعي، لا يحوّل الصراع بين المستأجر وصاحب الملك في أي لحظة من اللحظات إلى صراع أخلاقي بين الخير والشر، بين الفقر والبذخ، بين طبقة وافدة وطبقة راحلة، أو بين الأميركي الأبيض الأصيل والوافد اللاتيني. فلكلٍّ أسبابه لفعل ما يفعله. همّه في مجال آخر: تأثير هذا التحول في حيوات الناس وكيف يساهم ذلك في تكوين شخصيتهم. النصّ الرصين يعرف كيف يضع التناقضات المتوالدة من الأزمة في ميزان العقل، سانحاً لنا التقرّب من كلّ جهة والاستماع إليها، من دون أن تبتعلهما الحكبة والقصة والتفاصيل. من هنا، يستمد الفيلم روعته. عائلة جاردين في وضع صعب لا سيما أنّ الأب يعمل في المسرح ويعتمد على راتب زوجته للصمود، في حين أنّ الخيّاطة لا تملك هي الأخرى أي مصدر آخر للاسترزاق سوى محلها التجاري. أخلاق الطرفين الحسنة غير قادرة البتة على انقاذ العلاقة الجميلة الناشئة بينهما، في مجتمع يهمين عليه العنف والمال. وليس تشيكوف الذي نرى الأب يقتبسه في المسرح تفصيلاً بسيطاً، فالنص يختزل بعضاً منه، لا سيما في تبنيه الدقة لرسم الشخصيات والاستعانة بالإيحاء في نقل المعلومات.



 


إلا أنّ أكثر عنصر يسمو به الفيلم، هو تلك العلاقة البريئة المبنية على الصداقة والتفاهم والحلم التي ستنشأ بين الصبيين، رغم الاختلاف الواضح بينهما، وصولاً إلى تضامنهما الصامت الذي سيكون درساً إنسانياً عميقاً للكبار، هم الذين يتصرّفون كصغار فيما الصغار يتصرّفون ككبار. يا للأسف، لا درس يستطيع إعادة بناء ما تهدّم، وبالنسبة إلينا كما بالنسبة إلى المراهقين، إنّها نهاية عصر البراءة. نخرج من الفيلم وثمة مرارة في الفم!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم