الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"طوبى للفقراء بالروح، فإنّ لهم ملكوتَ السماوات"

بقلم المطران كيرلّس سليم بسترس
A+ A-

كلّ إنسان يسعى إلى السعادة، والحالات التي يكون فيها الإنسان سعيدًا متعدّدة. وقد ذكر منها السيّد المسيح ثماني ندعوها التطويبات، لأنّ كلاًّ منها تبدأ بلفظة "طوبى"، وتعني: سعيد الإنسان الذي يكون في مثل هذه الحالة. ما يلفت الانتباه لدى قراءة هذه التطويبات هو أنّ ما قاله يسوع عن هذه الحالات يناقض ما يظنّه معظم الناس. فمعظم الناس يرون السعادة مثلاً في الغنى، وإذا بيسوع في التطويبة الأولى يرى السعادة عند "الفقراء بالروح". من هم هؤلاء الفقراء بالروح؟ وهل يستطيع إنسان صاحب ثروة كبيرة أن يكون فقيرًا بالروح؟


المال وسيلة لا بدّ منها ليؤمّن الإنسان حياته وحياة عائلته. والمال وسيلة لا بدّ منها لعمران البلدان وازدهار الأوطان على مختلف الصعد الاقتصاديّة والعلميّة والثقافيّة. المال وسيلة في يد الإنسان، إنّه عبد يستخدمه الإنسان للوصول إلى غاياته الشخصية وغايات مجتمعه. ولكن إذا أصبح المال غاية حياة الإنسان، حينئذ تنقلب المقاييس، فيصير العبد سيّدًا والسيّد عبدًا. هذا ما حذّر منه السيّد المسيح بقوله: "لا يستطيع أحدٌ أن يكون عبدًا لسيّدين: فإنّه إمّا أن يُبغضَ الواحدَ ويُحبَّ الآخر، وإمّا أن يلزمَ الواحدَ وينبذَ الآخر. فإنّكم لا تستطيعون أن تكونوا عبيدًا لله وللمال" (متى 24:6). وهذا ما يقوله أيضًا بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: "أمّا الذين يرومون الغنى فإنّهم يسقطون في التجربة وفي الفخّ وفي جمّ من الشهوات السفيهة المضرّة التي تغرّق الناس في الدمار والهلاك. لأنّ حبّ المال أصل كلّ الشرور، مال إليه قوم فضلّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1 تيموثاوس 9:6).
التجربة التي يسقط فيها من يرى في المال غاية حياته تكمن في اللجوء إلى مختلف الطرق المباحة وغير المباحة، الشرعيّة وغير الشرعيّة، للحصول على أكبر قدر من الأموال. متى أصبح المال غاية الإنسان، تصير كلّ الوسائل مبرّرة، ويسقط المرء في القول المأثور الخاطئ: "الغاية تبرّر الوسيلة". حينئذ تنعدم الأخلاق ويبرّر الإنسان السرقة والقتل والزنى والخيانة والكذب والشهادة بالزور، والرشوة على مختلف أنواعها، كلّ ذلك في سبيل الوصول إلى غايته: تجميع الثروات. هنا أصل الفساد المستشري في دوائر بعض الدول، وقد فاق عندنا كلّ تصوّر، ووصل إلى جشع ونهم لا يرتويان، بحيث لم يعد يكتفي الإنسان عندنا بأن يسرق من مشاريع الدولة عشرة بالمئة وعشرين بالمئة، بل فاقت سرقاته المئة في المئة والألف في المئة. إنّ ما نسمعه في موضوع السرقات الرشى وعن الذين يدعونهم الناس "أكلة الجبنة" يكاد لا يُصدّق.
الفقير بالروح هو الذي تفتقر روحه إلى الطمع والجشع. الفقير بالروح هو الذي يقول ما قاله لي أحد المحسنين إلى المشاريع الخيريّة: لقد أحرزت ثروة من عملي، فليس كثيرًا علي أن أوزّع بعضًا من أموالي على الفقراء والمحتاجين. الفقير بالروح هو الذي يدرك أنّ حياته على هذه الأرض محدودة، وإن كانت ممتلكاته لا حدود لها.
هذا ما نبّه إليه السيد المسيح في مثل الغني الذي أخصبت أرضه، "فجعل يفكّر قائلاً: ماذا أصنع؟ إنّه ليس لي موضع أخزن فيه غلالي. ثم قال: أصنع هذا: أهدم أهرائي وأبني أكبر منها، وأجمع هناك كلّ غلالي وخيراتي، ثمّ أقول لنفسي: يا نفسُ، إنّ لكِ خيرات كثيرة مدَّخرة لسنين كثيرة. فاستريحي وكلي واشربي وتنعّمي. فقال له الله: يا أحمق، في هذه الليلة تُطلَب منك نفسك، فهذا الذي أعددتَه لمن يكون؟ ذلك ما يحدث للذي يكنز لنفسه ولا يغتني لدى الله" (لوقا 13:12-21).
ما يقصده يسوع هنا هو أنّ امتلاك الخيرات قد يرتدّ على صاحبها خيبة أمل. فقد توهّم هذا الغنيّ أنّ سعادتَه تقوم على تجميع الأموال. وفي حين كثرت خيراته، إذا به يفقد حياتَه. لا شكّ أنّ العوزَ هو مأساة تعوق الإنسان حتى عن التفكير بالسعادة، ولا يريد المسيح أن يعيشَ الإنسان في العوز، غير أنّ الثروة يمكن أن تخدعَ الإنسان وتوهمَه أنّه يحصل على السعادة بمجرّد الحصول على خيرات كثيرة.
قالت حكمة الأجيال: "القناعة كنز لا يفنى". المهمّ أن يعرف الإنسان أين يكمن كنزه الحقيقيّ، بحسب قول السيّد المسيح: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأَرض حيث السوس والعثّ يُتلِفان، وحيث اللصوص ينقبون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء، حيث لا سوس ولا عثّ يُتلِفان، وحيث لا لصوص ينقبون ويسرقون. فإنّه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أَيضًا" (متى 19:6-21).

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم