الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

أقنعة "المقاومة" وجيوبها المسلّحة

محمد الحجيري
A+ A-

في مرآة ظاهرة أحمد الاسير وحادثة عبرا في ضاحية صيدا، يتراءى طيف "حزب الله" كوارث للسياسة "الفتحاوية – العرفاتية" وللسياسة الأسدية في لبنان الذي عاش ويعيش أطواراً من التصدع والاهتراء، هي وليدة زبائنية المال والسلاح.


يروي قيادي سابق في منظمة يسارية لبنانية صغيرة من تلك التي تناسلت وتكاثرت في حرب السنتين (1975-1976) حتى العام 1982، تاريخ الحملة العسكرية الإسرائيلية على لبنان وصولاً الى بيروت، أنه قصد مرة مكتب القائد الفلسطيني الراحل يسار عرفات في محلة الفاكهاني البيروتية، فصادف كثيرين من أمثاله في صالة الانتظار الخاصة بمكتب "القائد العام"، زعيم حركة "فتح" المسلحة. كان المنتظرون "قادة" احزاب ومنظمات عروبية ويسارية محلية، ومثله ينتظرون الحصول على "مخصصاتهم المالية". فالسياسة "الفتحاوية العرفاتية" كانت تقوم على الزبائنية الثورية باسم القضية الفلسطينية: تزويد زبانية القضية المال والسلاح لتفريخ منظمات صغيرة وكبيرة محلية في الزواريب والاحياء والحارات والقرى، للتقنُّع بها واستعمالها في توليد توترات وأزمات أمنية، فتستغلّ هذه المنظمات نفوذها في عمليات تشبيح للأهالي واذلالهم، وفي زيادة أعداد ملصقات "شهداء" القضية على الجدران. وكان لكل مجموعة يموّلها عرفات أو غيره من أركان حربه "الأبوات"، وظيفتها ودورها المحددان في الزمان والمكان المناسبين لتبادل "الرسائل" الأمنية، محلياً واقليمياً ودولياً.


استثمارات "المقاومة"
في حقبة تالية من حقب تقويض أركان الدولة والمجتمع اللبنانيين -، وهي الحقبة "السورية الأسدية" التي كان يديرها ضباط مخابرات من عنجر - كان بعض وجهاء السياسة اللبنانية ومقدميها من أيتام العرفاتية، ينتظرون لساعات على باب مكتب الراحل غازي كنعان (المنتحر أو المستنحر) وسلفه رستم غزالي، كي يحظوا بلقاء مع رجلَي المخابرات اللذين لم يكن المال والسلاح ركيزة نفوذهما، بل التهديد والوعيد والابتزاز الأمني وصولاً الى القتل اغتيالاً حين تقتضي الحاجة الاستراتيجية لـ"الممانعة". على خلاف زبانية عرفات، كان على أيتامه اللبنانيين بعد رحيله عن بيروت، أن يدفعوا هم الأموال والإتاوات ويقدّموا الهدايا على اختلافها لرجلي المخابرات الأسديين النافذين في لبنان والعاملين على تفريخ جماعات و"زعامات" أو فرضها على مجتمعاتها وطوائفها، وخصوصاً المسيحية في البداية، والسنية والدرزية لاحقاً، والأسماء في هذا المجال تكاد لا تحصى. اما الطائفة الشيعية فعملت السياسة الأسدية الملبننة على تكتيلها واستتباع المنظمتين المسلحتين النافذتين فيها، "أمل" و"حزب الله"، اللتين صارتا أخيراً، الذراعين العسكريتين لتلك السياسة، وخصوصاً بعد جلاء الجيش الأسدي عن لبنان.
وها هوذا "حزب الله" يستثمر مقاومته الاحتلال الاسرائيلي وحربه الأخيرة مع جيش الدولة العبرية (تموز – آب 2006)، في الاستيلاء على مفاصل القوة في الدولة اللبنانية، وفي استعمالها رهينة السياسات الايرانية – الأسدية، معتمداً الجمع والمزج ما بين سياسة "دولة الفاكهاني" الفتحاوية – العرفاتية، وسياسة "عنجر" التي كان يديرها كبار ضباط المخابرات في "سوريا الأسد". من مظاهر هذه السياسة "الحزب إلهية"، تجويف مؤسسات الدولة، وغزوها غزواً مقنّعاً للسيطرة عليها من داخلها، الى جانب خلقها مجموعات وجماعات أمنية في الطائفة السنية، وتسليحها ومدّها بالمال، لتشكيل أذرع أمنية للحزب وسياساته، تحت مسمّيات شتى من أمثال "سرايا المقاومة" في صيدا وسواها من المناطق والمدن والأحياء. لا يخفى على "حزب الله" أن مثل هذه الجيوب الأمنية التابعة له – وهي لا يختلف حضورها وسلوكها في الأحياء السكنية عن حضور مجموعات التشبيح والبلطجة وسلوكها – تثير غضب السكان المحليين وسخطهم. فالحزب نفسه غايته من الجيوب هذه توتير العلاقات والروابط الأهلية المحلية المستقرة وتمزيقها، لجعلها على مثال العلاقات في مجتمعه "المقاوم" مقاومة أبدية ومقدسة. ووسط التوتير والتمزيق والاحتقان، يتزايد نشوء مجموعات الإسلام السلفي السني لـ"الذود عن الجماعة"، ولمجابهة مشروع "حزب الله" الشيعي وفائض قوته المتقنعة بتلك الجيوب. على هذا النحو نشأت جماعة أحمد الأسير "السلفية" في ضاحية عبرا الصيداوية الجديدة، القريبة من حارة صيدا ذات الغالبية الشيعية.


أقنعة أمنية وإعلامية
في مواجهة المجموعات الهامشية في جماعاتها، التي يمدّها "حزب الله" بالمال والسلاح، تتهافت المجموعات المماثلة والمناوئة للأولى على اقتناء السلاح على قاعدة إسلام سلفي سنّي يعتقد معتنقوه من الشبّان والفتية المهمّشين، أنه يمدّهم بالقوة المعنوية والعقائدية لجبه اختراقات الحزب الخميني الذي جعل أخيراً، ما يسمّيهم "التكفيريين" السنّة هدفاً لحروبه "المقاومة" في زحفه على معاقل السوريين الثائرين على الرعب والقتل الأسديين. والحق أن "حزب الله" بدأ، منذ ما بعد اغتيال الحريري، يكثِّف نشاطه في تفريخ جماعات ومجموعات لخدمة مشروعه. وحين انتبه الى أنه في حاجة الى غطاء وأقنعة اعلامية لذلك، موّل صحفاً وصحافيين جمعهم من بقايا الأحزاب اليسارية والقومية ومن "الشيعة" العونية، لتوسيع دائرة بروباغندا "المقاومة والممانعة" في مجال الاعلام. الى جانب هذا كله استطاع الحزب الشيعي تفريخ جمعيات أهلية ودينية في الوسط السني، واستتباعها بعدما استتب "تفاهمه" الاستتباعي مع "الشيعة" العونية النافذة في المجتمع المسيحي. وهناك تقارير صحافية رصدت وجود عشرات المقاهي في الضاحية الجنوبية لبيروت، يعمل روّادها كعيون وآذان أمنية لمراقبة تحركات النازحين السوريين.
لا يقيم "حزب الله" أيّ اعتبار للمجتمع ونسيجه وتركيبه ودورة حياته الاجتماعية والاقتصادية. فالمجتمع، كل مجتمع، يماثل في "عقل" الحزب الخميني وممارساته، ضاحية مربّعه الأمني التي يعيل محازبيه من أهلها، وتعمل أجهزته التعبوية على حشدهم وتجييشهم كلما أراد خطيب الحزب تهديد الجماعات الأخرى بهم في حربه "الكونية"، فيرفعون قبضاتهم الغاضبة هاتفين باسمه في ظهوراته الخطابية عبر الشاشات العملاقة، بينما تطلق زمر أخرى من محازبيه وزبانيته في الأحياء المختلطة، النار في الهواء ارهاباً للسكان وكيدهم. على هذا النحو يظهر المجتمع اللبناني مجتمعاً "مقاوماً وممانعاً".


أزمنة التصدع اللبناني
من "الزمن العرفاتي – الفتحاوي" ومعقله في الفاكهاني، الى "الزمن الأسدي" ومكتب مخابراته في عنجر، وصولاً الى زمن "حزب الله" ومربّعه الأمني، عاش لبنان الدولة والمجتمع ويعيش نهباً للتصدع والاهتراء والاستنقاع والتحاجز الأهلي المحتقن. الحزب "المقاوم" يمارس دوراً بديلاً من دور المخابرات السورية، مضيفاً الى ذلك الدور الزبائني المالي المسلح الذي كانت تلعبه منظمة التحرير الفلسطينية التي جعلت لبنان مسرحاً لسياسات القضية وسلاحها وعملياتها التي استبدلها الحزب الخميني بسياسات ولاية الفقيه الايرانية. أحياناً يقوم هذا الحزب بالمناوشات الأمنية مباشرة على تخوم الأحياء السكنية والجماعات الأهلية، وأحياناً يستعمل أقنعته المحلية من أيتام السياسات الأسدية التي لا قوام لها بغير تعميق التناقضات بين الجماعات اللبنانية.
اليوم يصعب الفصل بين جسم "حزب الله" الأمني والأهلي، وسلاحه وعقيدته وولائه الإيراني – الأسدي، وجيوبه الأمنية المسلحة في هوامش الجماعات غير الشيعية. وما الدعوى الى وضع ترسانة سلاحه في إمرة الدولة والجيش اللبنانيين، إلا من أضغاث الأمنيات والأحلام. فـ"حزب الله" من دون سلاحه يفقد مبرر وجوده المادي والعقائدي. بدلَ المعزوفة الأسدية عن "تلازم المسار والمصير"، تمكّن "حزب الله" من جعل معزوفته عن "الجيش والشعب والمقاومة" بنداً من بنود البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية. والجيش الذي عملت السياسة الأسدية على استتباعه ومنع تسليحه، لا دور له في سياسات "حزب الله" سوى القيام بخدمات لوجستية لـ"المقاومة"، أو استعماله قناعاً لعملياتها "الجراحية" في الجسم الاجتماعي اللبناني. أما الشعب فهو شعب مرصوص خلف "المقاومة". هذا يعني ان الجيش والشعب اللبنانيين لا وجود لهما إلا إذا وُجدت "المقاومة" التي تزدري كل ما عداها، ما دام زمن انتصاراتها المدمرة قد طوى "زمن الهزائم". حتى أن السيد حسن نصر الله يعتبر ان "لا شيء اسمه لبنان" لولا "المقاومة" التي هي علّة وجود "البشر والأرض والنفط" على الساحل. وهذا ما قاله الأمين العام للسلاح في واحدة من خطبه الأخيرة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم