الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

رضا الباهي لـ"النهار": الإسلام ليس بريئاً من "داعش"!

المصدر: "النهار"
رضا الباهي لـ"النهار": الإسلام ليس بريئاً من "داعش"!
رضا الباهي لـ"النهار": الإسلام ليس بريئاً من "داعش"!
A+ A-

جلستُ مع رضا الباهي في ردهة فندق "أفريكا" الذي يتوسط جادة الحبيب بورقيبة أحادثه في عمله الجديد، "زهرة حلب"، الإشكالي بطبعه ومضمونه وخياراته. قلت له رأيي السلبي بصراحة في العمل المنتظر الذي افتتح قبل بضعة أيام من لقائنا هذا، الدورة السابعة والعشرين من "أيّام قرطاج" (٢٨ تشرين الأول - ٥ تشرين الثاني). صارحتُه من دون لفّ ودوران بما يجول في بالي من أفكار، وأجرينا المقابلة على هذا الأساس. ثمة صداقة تجمعني به أحرص على استمرارها، وفي الآن عينه لا يسعني أن أدوّر الزوايا. هذا على الصعيد الإنساني. أما مهنياً، فكنت أعجبتُ سابقاً بعدد من أفلام الباهي، منذ "العتبات الممنوعة" (١٩٧٢)، وأدركُ مدى حساسية المخرج عندما يتأبط عملاً جديداً يكون قد أمضى في سبيله سنوات عدة من العمل، بحثاً وتنقيباً وتصويراً وترويجاً.


النقد مسؤولية قبل أن يكون أي شيء آخر، فيصعب على المرء أحياناً "القضاء" على منتج فني، ولو معنوياً، بضربة قلم. في المسألة بعض السهولة، ما يجعلك ترغب في أن تسترق النظر إلى خلف الفيلم أحياناً في محاولة لفهم الخفايا ورصد النيّات الأولى وتطابقها مع ما شاهدته على الشاشة. أعرف نيّات الباهي جيداً، إذ واكبتُ مراحل عدة من عملية انجازه "زهرة حلب"، وكدتُ أحضر عملية التقاط مَشاهد الفيلم السنة الماضية في مثل هذا الوقت خلال مهرجان قرطاج، لولا حادثة شخصية جعلتني أعود إلى بيروت مضطراً. لكن شتان بين النيات والمنتَج النهائي الذي نتابعه على الشاشة. في هذا المعنى، كلّ فيلم هو خيانة لنيّات المخرج الأساسية، تلك التي خطا أول خطوة من أجلها. بعضها خيانة كبيرة وبعضها خيانة طفيفة جداً.


"زهرة حلب"، يقتفي خطى أم تونسية (هند صبري) تذهب للبحث عن ابنها الذي انضم من دون سابق إنذار إلى الجهاديين في #سوريا، تلك التي تتخبط في الدمّ والركام. إلا أنّ الفيلم يقوم بخيارات سيناريستية غير صائبة في الكثير من فصوله (لا سيما في النهاية)، مفضّلاً "الحدّوتة" (تونس أكبر مصدّر للجهاديين في سوريا) على الدراسة النفسية لقضية أخلاقية دينية اجتماعية لا يزال المجتمع التونسي يعانيها.



هند صبري في دور الأم المفجوعة.


العمل برمّته يتخبط في رؤية عريضة للموضوع، بعيدة من التفاصيل، فيقع في الطرح السطحي الباهت. لن نعرف الكثير عن المراهق الذي ينضم إلى "جبهة النصرة" ويرحل إلى سوريا، وسنقف على عتبة المحفزات التي ستسوقه إلى حضن الإرهاب والخراب. المراهق سيبقى بالنسبة إلينا ذلك الوجه الذي يصعب الاختراق. هذا ربما ما أراد الباهي قوله، عبر التركيز على الأم ومعاناتها وجعل إشكالية الهشاشة التربوية أولوية في مسار فهمنا المسببات. بدلاً من الاهتمام بالصبي، نرى النصّ يركّز على الأم ومحاولتها فهم ما الذي قصّرت فيه، فينتج من هذا المنهج فيلم قد يكون صحيحاً في هذه الحال، لكن تعميم خطابه يفضي بنا إلى استنتاجات خطيرة. أياً يكن، فيلم الجهاد لا يزال ينتظر مَن سيقدّمه بطرح متماسك وعميق، علماً انه كان لرشيد بوشارب تجربة مماثلة ("الطريق إلى اسطنبول") عُرضت في مهرجان برلين الماضي وكانت غير موفقة.
صُوِّر "زهرة حلب" في #تونس، بعدما حاول الباهي تصويره في البقاع اللبناني، إلا أنّ #حزب_الله أراد الاطلاع على السيناريو، فرفض. يقول: "وجدتُ أنّه من الأكثر أماناً للفريق والفيلم والمواد هو التصوير في تونس. اخترتُ مكاناً أقرب ما يمكن لجهة حلب وحدود تركيا. وأحضرتُ مستشاراً من سوريا كشف على المنطقة وقال أنّها مناسبة".


عندما عبّرتُ للباهي عن رأيي في أنّه لا يزال مبكراً التطرق إلى قضية الجهاديين في سوريا، لعدم اكتمال المشهد والافتقار إلى التفاصيل، لم يوافق: "بالعكس، أؤيّد إنجاز مثل هذه الموضوعات، وشعرتُ بأنّني تأخرتُ لأقدّم فيلماً حولها. كان يُفترض ذلك بين العامين ٢٠١٢ و٢٠١٣، مع تصاعد ظاهرة هجرة المقاتلين. رسالتي ليست تحليل #داعش ولا الوضع السوري ولا النسق الذي يتم عبره اختيار آلية إرسال الجماعات مقاتليها إلى القتال. يمكن إنجاز فيلم عن المخطّطين، عن التركيبة الغريبة في استقطاب الشباب. إنما طرح موضوعات تتعلّق بالمموّلين والمخطّطين يحتاج إلى أفلام. قاربتُ وجهة نظر الأم المفجوعة والولد الهشّ. لا بدّ من سؤال نطرحه دائماً في تونس: كيف تمكّنوا من إقناع ولد ينتمي إلى هذه العائلة بالقتال؟ في كلّ عائلة تقريباً، ثمة ولد تأثر ايديولوجياً أو ذهب ولم يعد. في تونس وحدها، ثمة ٧٠٠٠ إلى ١٢٠٠٠ شاب انخرطوا في الحرب: ظاهرة كبيرة!".


من أجل كتابة السيناريو ورسم تفاصيل شخصياته انطلاقاً من معطيات واقعية، استشار الباهي محامين من جمعية "رجعولنا ولادنا" الذين يمتلكون ملفّات، وقابل شباناً مع أمهاتهم. أجرى مقابلات مع مقاتلين سافروا وعادوا. من هنا، أمسك بكيفية سير الأمور. بدوا كأنّهم في حال خوف ولا يريدون البوح بكلّ شيء. ذات مرة تم أخذ نحو ٤٠ أمّاً إلى دمشق ليرين أبناءهنّ. بشار الأسد وافق على ذلك، من دون إخراجهم من السجون. الباهي: "كانت لي صلات مع هذه المجموعة. أما بالنسبة إلى المحامين وعلاقتهم بوزارة الخارجية، فالجميع يعلم أنّ ثمة وزراء في تونس لم يكثّفوا الجهود للكشف عن الحقيقة أو تسهيل مأمورية عودة الشباب. هناك مَن يشجّعهم على الانخراط في الحرب. مفاصل الدولة مُشاركة في اللعبة".


هل كان من الصعب فصل الحقيقة عن الأقاويل والتضليل؟ ثمة بروباغندا مُضخّمة تلفّ "داعش" و"جبهة النصرة"، فكيف تعامل الباهي مع هذا الواقع لفصل الخيوط بعضها عن بعض؟ يروي أنّه تعمّد تفادي إشكالية "جهاد النكاح" واكتفى بالتلميح إليها. مشروعه ليس ذهاب النساء إلى النكاح. لم يملك المعلومات الكافية، ولا يبني سيناريواً على ما يُقال. "حتى الشباب الذين يذهبون للجهاد، ثمة لحظة خلف انزلاقهم ووقوعهم في الفخّ"، لذلك، ترك الباهي الخيارات مفتوحة في الفيلم. انكماش الشاب هو إحساسه بالنقص جرّاء اختلافه عن الآخرين. الأم غير موجودة دائماً في المنزل للتواصل مع ابنها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الطلاق بينها وبين الأب.



الهشاشة موضوع "زهرة حلب".


سألتُ الباهي: "التطوّر النفسي للشخصيات ضعيف بعض الشيء. لم تتعمّق في دواخلهم. لم نعرف كيفية تفكير الشاب وغاياته. هل هذا خيار، أم أنّ الأمور أفلتت من بين يديك؟". يقول: "حين قابلتُ الأمهات اللواتي فقدن أولادهن، لم أحصل على تفسير منطقي يُبرر هذه الخسائر. لمستُ إحساسهن بالذنب، واقرارهنّ ببعض الخشونة في معاملة الأولاد. ارتأيتُ إبقاء الشاب كتلة من علامات الاستفهام المعلّقة، وذلك أفضل من الوعظ والقول أنّه كان ينبغي التصرّف على هذا النحو. ليس ثمة سبب واحد، بل مجموعة أسباب متداخلة".


"الموضوعات في "زهرة حلب" متداخلة ومرتبكة، كأنّكَ مشيتَ في طرق لم تُكمل الخُطى فيها، ألا تجد أنّ طرحكَ لم يرتكز على موضوع واحد؟"، أسأل الباهي الذي حين يتكلّم عن المرأة في تونس، يُلمّح بالضرورة إلى شروط عيشها. يقول: "لديّ أسبابي لذلك. الهشاشة تيمة الفيلم، وعليّ إظهار من أين أتت. اصطياد الشباب هو جرّاء هذه الهشاشة. دعني أعطيك مثلاً. في حيّنا شاب وأخوه، الأول طالب فيزياء، والثاني طالب رياضيات وطب. شابان جميلان، أمّهما مدرِّسة والأب مدير مصرف. كلّ الظروف ملائمة لعيش سليم، لكنّهما فجأة بدأا يرتادان الجامع، وبقيا شهراً فيه خلال رمضان. استغربنا جميعاً. بعد ثلاثة أسابيع، علمنا أنهما في سوريا. ماتا في ضربة واحدة!".
يتأخر الفيلم كثيراً عند موضوع المرأة، مركّزاً على الأم أكثر من تركيزه على الابن. يشدّد الباهي أنّ موضوعه في الأساس هو الأم وليس ابنها. أقاطعه، لأعرف إذا كان سبب ذلك أنّ هند صبري هي بطلة الفيلم، مما اضطركَ إلى التركيز على حضورها؟ يردّ: "لا. أنا لم أعش مع الشاب في سوريا. موضوعي هو شجاعة المرأة التونسية. هذا ليس فيلماً - ملفّاً عن "داعش". لا أملك الإمكانات أولاً، وليس موضوعي الدخول في صلب إشكالية هذا التنظيم الذي لم يكن موجوداً قبل خمس سنوات. ثمة شباب تونسي ذهب للقتال في أفغانستان قبل ولادة "داعش". أعداد تُستقطب ويُغسل دماغها وتُرسل إلى الحرب. أعتقد أنّ ثمة جانباً رومنطيقياً لقتال هؤلاء الشباب، كما حدث العام ١٩٦٣ في أوروبا حين كان الشباب يسيرون خلف الجمهوريين في أسبانيا، أو الرومنطيقية في السبعينات حين ذهب كثر إلى أميركا اللاتينية ليشتمّوا رائحة تشي غيفارا. استُغلَّت هذه النزعة الرومنطيقية في الشباب، فارتسمت الهشاشة على شكل ظاهرة".


الباهي المتحدّر من مدينة تونسية هي رمز للإسلام (القيروان)، ما الذي يريد إثباته من خلال قضية الجهاديين؟ فصل الإسلام عن الإسلاميين، أم تداخلهم؟ بعد الثورات وانكسار جدران الخوف ليس كما قبلها. لم يعد مفاجئاً سماع مثقفين يقولون إن هؤلاء الإسلاميين يستوحون أفكارهم من النصّ الديني نفسه. يقول الباهي: "دعني أقول شيئاً: أصبحتُ أعتقد أنّ كلّ مسلم هو "داعشيّ" أو على الأقل أن ثمة "داعشيّاً" يغفو في داخله. هذا اعتقادي الشخصي. لا أجد مسلماً ناجياً من "الداعشية". المسلم الحقيقي هو مَن يتبع القرآن، ومَن يتبع القرآن هو "داعشيّ". المعادلة بسيطة. أنا لا ألعب على الكلمات. المسلم المتحضّر وحده خارج هذا التصنيف. كنتُ من المسلمين، الحياة غيّرتني، والتجربة. أنا الآن أجاهر باقتناعاتي علناً: كلّ مسلم هو "داعشيّ". تكوّن هذا التحوّل عندي بعد الثورة التونسية ومقتل شكري بلعيد. حين تعيش هزّات كبيرة، وأنت في وسط البلد، يولد لديك هذا التحوّل. الرجل كان شعلة في الذكاء، اغتيل وحتى الآن لم يُقبض على قاتله، وفي الجوامع ثمة نداء "اقتل فلاناً واذبح فلاناً"، كذلك في وسائل الإعلام. هل أقف مكتوف اليدين وأردّد أنّ "الإسلام بريء"؟ أنا ضدّ هذه المقولة. على المفكرين الذين ينتمون إلى البلدان الإسلامية أن يتحركوا. حتى في النصّ الديني، لا بدّ من مناقشة".


يروي الباهي أنّه في صدد العمل على إنجاز وثائقي عن نهاية الأيديولوجيا الإسلامية بمفهومها الأخواني. "بدأتُ العمل عليه قبل "زهرة حلب"، وبسببه أوقفته، وأنا في صدد استكمال العمل". ولكن مَن يعرفه يعلم أنّه على مسافة من "الربيع العربي" الذي شكّل وعياً تجاه الدين وأسقط بعض الخوف. سابقاً، لم يكن هذا الخطاب ممكناً. يعترف المخرج أنّه في تونس اليوم، تتكلّم الناس بحرية. تزعزعت الرقابة الذاتية الآتية من المقدّس والنظام الموروث. حرية الكلام لم تكن ممكنة، واليوم الجميع يتكلّم. ولكن ما الذي يجعل تونس بلداً يحوي كماً من العلمانيين، رغم وجود آلاف المقاتلين؟ مفارقة يردّ عليها الباهي بالقول: "المسألة أنّ المدنية والتقدّم الحضاري ليسا قشوراً وشعارات. المرأة مكبّلة، تمارس الجنس مع رجل سخيف جاهل، يفرض عليها العمل لتأمين المال. تونس ككلّ البلدان العربية، رجالها متخلّفون، وإن تفاوتت كمية التخلّف والجهل من بلد عربي إلى آخر. لبنان تعايش مع فئات متنوّعة، الأمر الذي أدّى إلى اختلاف نسبيّ في النظر إلى العلاقات وصناعتها، فالمسلم فيه قدّر الآخر والآخر قدّره. لبنان مساحة لفئات مختلفة. لذلك، صوّرتُ المشهد الأخير في كنيسة مهدّمة، لإحساسي أنّه إذا انهارت المسيحية في الشرق فسينهار العالم العربي بأسره. هذا إحساسي. أنا لستُ مسيحياً، ولا جذور تربطني بالمسيحية. لكني أعتقدُ أنّ المسيحيين والمفكرين في الشرق هم مصدر الازدهار في العالم العربي".


سوريا مستنقع سيغرق فيه الكثير من السينمائيين مستقبلاً. كيفما استدرت، لا بدّ من الانزلاق إلى فخّ. طرح خطير ومتشعّب يدركه الباهي وسبق أن واجهه حينما أنجز فيلمه "السنونو لا يموت في القدس" العام ١٩٩٤. "آنذاك، راح يُقال لي: دعكَ من فلسطين ومن هزّاتها ومن الانتفاضة ومحادثات السلام. وحين قلت إنّ تحقيق السلام مُحال، ثمة فلسطينيون غضبوا، وبعد سنوات أقّروا بأنّ ما طرحته في الفيلم كان صحيحاً".


 


[[video source=youtube id=Uqq8_moNZjg]]


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم